رأس السنة

ينبلج من رحم الحياة، يكرّر حضوره مع آخر ليلة من تلك الأنثى السنة؛ التي نتعايش لحظاتها الماضية بسرعة بعد معاناة ومخاضات عسيرة، ولحظات نادرة، بل أجزاءً منها، وأكثر من ذلك أعشار الأجزاء من ثواني ما قبل إعلان أجراس المنبهات عن انطباق عقارب الساعات المنتشرة في أصقاع الأرض،

حيث ننتبه إلى أنها الساعة الثانية عشرة منتصف الليل بالتمام والكمال، والتي معها تظهر ولادة رأس السنة، حيث لا نرى غيره ميلاداً جديداً، بكون الجميع يستند إليه بالتقويم على الرغم من تشابه ولادة كثير من التقاويم الأخرى: كرأس السنة الصينية، والفارسية، والعبرية، والهجرية،إذ تتشابه رؤوسها لتختلف عن رأس السنة الميلادية بكونه الأكثر تداولاً واعتماداً .

لماذا يطلقون على قدومها “رأس السنة”، هل من أجل أن نبدأ منه، أم بكونها تتشابه مع الجنين الذي يلد من رحم أنثى، حيث يظهر رأسه أولاً ومن ثم جسده، فلم نسمع في التاريخ أن جنيناً وُلد من قدميه، وطبيعة الرأس أن يكون لديه عيون تراقب، وآذان تسمع، وأنف يشم الروائح،

ومثلها مثل الصبح وحمْله للنور الأبيض المنبثق من الظلمة، ومن ذاك الليل الحالك ولحظة تنفّسه، أي أن الصبح الذي يتنفس الصعداء بعد ليل طويل، ينجب رأس سنة ميلادية وأقصد أنها تبدأ من رأسها على شكل القمة التي تدفع بنا من أجل البحث في تضاريس جسدها،

أي الحياة المختزلة أيامها على شكل سنة، تصل البلوغ بتمامها 365 يوماً وست ساعات، تدعونا لنسير على دروبها المعبدة والوعرة، ننزل وديانها ونصعد هضابها وجبالها، نتجوّل في تكوينها، ومع تداول أيامها نمرّ بالآلام، والأفراح، والأحزان، والمسرّات، والنجاحات، والخيبات، وحينما نصل إلى مؤخرتها أي نهايتها نعمل على تقييمها قائلين عنها: كانت سنة جيدة أو سيئة أو عادية، تمرّ كما مرّ قبلها الكثير من السنوات .

مع كل رأس سنة جديدة يطلّ علينا كما أطلّ آدم برأسه على عالم النور، فشاغل الملائكة وأشغل ذاته بهم لتشتكيه إلى الإله، حيث يضغطه إلى حجمه الطبيعي، نحتفل بقدومه نتوقف لنسأل أنفسنا: هل نكبر سنة، أي هل نضيف إلى عمرنا سنة، أم أننا نصغر سنة؟ بكون عمرنا مقدراً منذ اللحظة الأولى، ولنفترضه سبعين عاماً أو ثمانين، هل ننقص منه أم نزيد فيه؟ دعونا نسأل أنفسنا: بماذا نحتفل؟.

إن أهم ما في رأس السنة الميلادية ذات الصبغة السماوية أنها تتوسط رأسي السنة العبرية والسنة الهجرية، منجزاً مثلث الإيمان، ومحدثاً لغة الجمع، وقوة اللّمع من خلال إنشائه لتلك الكرنفاليات على وجه كوكبنا الحي،

وأينما وُجد الإنسان على الرغم من اختلاف العقائد ورؤوس السنين غير المتشابهة في المعتقدات والمذاهب والطوائف، والمتفقة  في جوهرها على الإيمان، ففي هذه الليلة الحاملة لرأسها يتوقف كلّ شيء: الحروب والنزاعات، ليسود الحبّ وترتسم الابتسامات،

هذه الحالة الكرنفالية التي تسود معظم جهات كوكبنا البديع وإنسانه المبدع، نستثني منه كياناً صهيونياً أخرق يحتفل بهذا الرأس أيضاً، ولكن على طريقته فبدل من أن يشعل الشموع ويمارس الحبّ الإنساني نجده يقتل ويهدم بيوت الفلسطينيين، ويهجّر أصحاب الأرض الحقيقيين، ويشنّ الغارات الوهمية والحقيقة على اللبنانيين، ويصرّ على احتلاله لجولان السوريين، يمارس التجسّس على العالم أجمع؛ باستغلاله للفرح العالمي بقدوم رأس السنة الجديدة،

وليفسد العرس العالمي لحظة بداية الاحتفال بولادته التي نعتقد- نحن الحقيقيين- أن وجود هذا الرأس السنوي حقيقي حيث ينجز التناغم والتواؤم الجميل؛ حتى الطبيعة الباردة بمعنى لا وجود للحرّ في ليلته، نجد أنها خيِّرة بحكم قوانين الطبيعة؛ التي تمنح للحياة تردّدات إيجابية نوعية، تمنح التفاؤل وأحلام امتلاك الخير للجميع.

بالتأكيد، إن بداية السنة أو ما يسمى العام يعني فتحاً جديداً بعد الوصول إلى نقطة الصفر، أي مؤخرتها، أو آخر ثانية فيها، أو نتاج النظرية، أو المعادلة التي تأخذ بنا للتنبؤ حول العام الجديد، وجميعها تحتاج للتمتع بلغة الانطلاق من جديد، ولا يتم ذلك إلاّ بعد تحفيز الهمم، فلا مستحيل أمام الممكن، ولا استكانة طالما أن هناك نبضاً في القلوب ودماء تجري في العروق، وحياة تشرق مع كل صباح يتقدم فيه فجر جديد،

إلينا جميعنا نحن الإنسان بكل أطيافنا ونسيجنا الإنساني أقول: إن علينا استقبال رأس السنة الجديدة بالحب الاجتماعي المطلوب منه أن ينجب حباً، وإقداماً، ونتاجاً جميلاً.. كل سنة وأنتم متجدّدون بالخير.

د.نبيل طعمة

 

شاهد أيضاً

استيراد الحلول

تحتاجها الأزمات، ليس فقط الطارئة والمفتعلة وإنما المبرمجة كأهداف استراتيجية مغناطيسياً؛ لكن جميعها مرصدة، وجاهزة …