الصحافة الصفراء

مفهومٌ حديث يتسلل إلى لغة مجتمعنا الصحفي، الحامل للأمانة الأخلاقية التي تتمتع بها مهنة الصحافة، نبحث فيه أسباب اصفرار الأوراق وبقاء الكلمات بألوانها، وعن ماذا تنبئنا، هل عن حالة مرضية؟ بكونها تحمل سمة النبش وتحويل الآخر إلى كبش،

أي: من خلال إثارة الداء، وعدم القدرة على المساعدة في تقديم الدواء، أم من أجل عرقلة التقدم والظهور على حسابه، وتحويل النجاحات إلى مطية يمتطيها المتعلقون بتلك الأوراق الصفراء، والتي سرعان ما تنهار بهم لحظة تمزقها بسبب عدم قدرتها على الصمود أمام رياح الحقيقة،

وإنني هنا أخالف القائلين بأن الصحفي وليم راندولف هيرست الأمريكي (1863-1951) هو موجد الصحافة الصفراء، بينما هو من أوجد صحافة الإثارة والفضائح، والإثارة فنٌ أدبي تستخدمه النوافذ الإعلامية من باب إحداث التشويق والجذب،

أما الفضائح فإن كانت حقيقية فنشرها يعتبر ضرورة من باب الإعلام، وغايتها الردع أيضاً، وما يدور الآن بين الجهات العامة والخاصة، ومتصفِّحي الصحافة المقروءة والمسموعة والمتلفزة والإلكترونية من أحاديث حول نوعية ما ينشر، وهل هو وثائقي مدقق، أي: صحافة حقيقية أم أنه اختلاق ونسج، الغاية منه تشويه صورة أفراد أو مجتمع أو أمة،

أي أن أصحابها أو القائمين عليها متمترسون خلف حالات مرضيّة غير معرفيّة، تحمل في طياتها لغة الأحقاد والحسد والتشفّي، وكل ذلك بغاية إحداث الإرباك عبر طرح لغة الشكِّ والتشكيك.

أعتقد أن لا وجود لها في مجتمعنا؛ إلا إذا كان المشتغل بها من اللون الأصفر، ولا وجود لهذا اللون بيننا، فإما أن يكون هجيناً أو دخيلاً، والإيمان بوجود حالة الاختلاف بين الأشياء وتعدّد ألوانها وعيشها المحبّب الذي نعتبره حالة صحية وطبيعية، بكون التوافق المئوي ضرباً من ضروب الخيال،

أي أن عمليات التطابق وأقصد الكمال لا يمكن لها أن تتوافر بحكم أن الكمال للكلي المحيط. وبما أننا “نسبي”، فنسبة الخطأ والخطيئة الطبيعية ممكنة ووارد حصولها في كل لحظة، ومع أي حالة تقويمية، شريطة أن تحمل نسبة كبرى من الوجدان المنطقي، وقابلة للتصالح بين الجمع لحظة حدوث البريق أو الضوء؛ الذي يشير إلى نسبة الخطأ، فيتعلم منه الجميع،

ويحدث الإجماع على أننا جنس إنسان نُصيب ونخطئ، فإذا وُجد بين كلِّ هذا الجمع وجهٌ أصفر وبدون علة فقد يتشابه مع التفاحة المعطوبة ضمن التفاح الجيّد .

إذاً، لا وجود للصحافة الصفراء، إنما هناك وجود لأشخاص صُفر الوجوه، غير قادرين على امتلاك التطور، ومواكبة التقدم والمسير إلى الأمام، وبما أننا ندرك بأن السالب عكس الموجب، ونعترف مقدرين بأن التضاد وُجد من أجل إظهار الحقائق ونصرتها، وتعزيز لغة الجمال، وتفوّق الصح بين مجموع الصح، وتفوّقه أيضاً على الخطأ، فإننا نؤيّد وجود النقد البناء، ونقاوم النقد الهدام،

كما أننا نصرّ وندعم لغة امتلاك نواصي حقائق الأشياء، وعلى تضادّ فيما ينشئه العقل من تخيّل وأوهام، وبناء النظريات على الافتراض اللاواقعي دون امتلاك وسائل تتضمّن الحقائق،

فالصحافة قبل كل شيء مهنة أخلاقية وفي جلّها بند من بنود الإعلام، تنضوي تحت العلم الجامع واللامع المرفرف فوق سماء الوطن، أيّ وطن له عَلَم وألوان ونسيج وفسيفسائية خاصة به، تحوي الأبيض، والأحمر، والأخضر، والأزرق، والأصفر، وحتى الأسود (عهد الظلمات)،

وحينما نستحضر قوس قزح، ونتابعه ضمن مؤشر نيوتن أو مخروطه، والذي حينما نديره تذوب ألوانه في بعضها، ضمن بوتقة الحبِّ المنجبة للّون الأبيض، المانح للحياة حضور وجودها، يضيء عليها نقاط الخلل،

فيرى العارفون ببواطن الأمور، والمتبصرون فيها ضرورة إعادة النظر فيما ينتظر بين لغة الأبيض والأصفر، وبما أن الأسود حالة طمس نهائي للحقائق البيضاء والصفراء، فهذا يعني أن الأصفر يمكن علاجه ومزجه من جديد، ليتحوّل إلى أبيض أو أخضر؛ لكن بعد فهم أسباب اصفراره.

لماذا، ومن أجل ماذا أطرح هذا العنوان، وأشير إلى عنواننا الصحافة الصفراء؟ وغايتي هي تبرئة الصحافة الخلاّقة التي لا يمكن لها إلا أن تكون مع الحق والحقيقة دائماً وأبداً، وإذا كان جلُّ أفراد المجتمع أخلاقيين؛ فبحكم مسيرة التكوين هناك أفراد صفراويون يرسمون التشكيلات الصفراء المرفوضة إنسانياً وأخلاقياً، ويحاولون العبث ضمن المجتمع الإنجابي على اختلاف تنوعاته ومراكزه .

د.نبيل طعمة

 

شاهد أيضاً

الأسرة والعائلة

قادمة من الأسر بمعناه الجميل، فأسره الشيء أي: جذبه إليه، لينحصر معه، ويتخصّص به وله، …