الأسرة والعائلة

قادمة من الأسر بمعناه الجميل، فأسره الشيء أي: جذبه إليه، لينحصر معه، ويتخصّص به وله، ويغدو كمن لا يفكّر إلاّ بشأنه ومن أجله، حيث يأخذ جلَّ تفكيره، وعمله لا يكون إلا لصالحه، يتّحد معه، فإذا أنجبا كانت وظهرت الأسرة؛ التي لا يمكن أن يشكّل الفرد ذكراً كان أم أنثى بمفرده أسرة،

ولا أن يطلق عليه أو عليها لقب العائلة، بل يمكن أن يكونا قادمين من عائلة واحدة، أو من عوائل مختلفة، وإذا اجتمعا معاً وحدث بينهما زواج يبقى هذا العنوان العريض ناقصاً وقاصراً، حيث لم تكتمل عناصر الوصول إليه،

ولا تكفي أسباب اجتماعهما على الرغم من وجود الحقّ في تداول الكلمة “الأسرة أو العائلة” مبكراً، فالشراكة بين الاثنين لا تُظهر أسرة ؛ إلا إذا أنجبت بنين وبنات، أي واحداً أو أكثر، ولا يطلق عليها “عائلة” بكون المسمّى مفهوماً عاماً ينضوي تحته مجموعة بشرية مترابطة بالجنس الواحد والقرابة والدم.

إذاً الأسرة تتكون من أب وأمّ وأبناء، أي أنها خلية من العائلة العريضة والواسعة؛ التي تضمّ أجداداً وأعماماً وأخوالاً وأبناءً وأحفاداً، ومنها نقول: الأسرة الحاكمة، والعائلة المالكة، وبيت العائلة الذي تتفرّع منه بيوت أسرّية، تتحول مع الزمن إلى بيوت عائلية، وحين حدوث التفاخر يقال: أنا من عائلة كذا المشهورة بكذا أو لقبها كذا، ومنها تحولت إلى آل كذا،

وفي اللغة “العائلة” آتية من عالَ عياله عولاً أي: قاتهم وأنفق عليهم، ويأتي معناها بشكل دقيق في اللغة العربية – العائلة: المرأة الفقيرة .

الأسرة طموحٌ تكويني، مهمّ جداً لحياة الإنسان الباحث عن بناء حصنٍ قويّ وأمين، يبدأ معه من سنّ النضج، يحلم به مع نموّه الفردي، ورؤيته وفهمه لمحيطه الأسروي والعائلي، وإحساسه بضرورة اكتمال شخصيته،

لذلك كانت صورتها الحقيقية تحمل هدف الوصول إلى تكوينها، وتحوّلها إلى دافعة إلى العمل، ورافعة من أجل الوصول إليها. عرفها الإنسان الأول الذي بحث في سريره عن السرِّ المشترك، وسرورها وسيرورتها، وعن الأمان، فوجده لحظة ضمّ أنثاه التي منحته الحب، ليمتلئ فراشه أماناً، وبه أنجب الأبناء، وسعى للحفاظ عليها، فأوجد لها قوى التماسك والترابط ودقة البنيان،

وكلّما توسّعت وكبرت تحولت بداية إلى عائلة، ومن ثمّ إلى مجتمع، وتظهر منها صورة العالم الكبير، ويقال الآن: إن العالم غدا أسرة واحدة؛ لكنه يُستغلّ من قبل القطب الواحد الذي نصَّب نفسه رباً لهذه الأسرة،

مستنداً إلى مقولة: “الناس عيال الله والله مولاهم” حيث لا بدَّ للأسرة من ربّ، فربُّ الأسرة موجود في خليّة النحل (الملكة)، وفي الغاب الأسد، وفي الكواكب الشمس، وفي السفينة قائدها، وفي الدولة رئيسها.

أجل من حقِّ كلِّ إنسان أن يحلم بتكوين أسرة، مثله مثل الإنسان القديم، وهو مَن شاهد أنثاه فعرف أنها قلبه الذي لا يمكن له أن يكتمل بدونه، وأن العقل هو ربُّ الأسرة أينما وُجد به أو بها، وأنّ الأعضاء كالأبناء أو أفراد هذه الأسرة، فكلّما كانت متوافقة متناغمة فيما بينها كان الجسد سليماً معافىً، وإذا اشتكى عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسّهر،

كما يسهر ربُّ الأسرة أو ربّتها لحظة حدوث الانشغال على بعضهم وعلى أبنائهم. من كلِّ ذلك ننطلق لنقول: إنّ تعامل الكلّ بمنطق الأسرة من الخليّة الصغيرة، إلى الأسرة المدرسيّة والجامعيّة، والمفاصل الإدارية الحكومية، تشكل “عيلة” أو عائلة كبيرة، تؤدّي إلى حصول التطور، وامتلاك نواصي النجاح من خلال شعور الكلِّ بالمسؤولية؛ التي تنطلق من الأسرة الأساس، وتنتهي بالمجموع العائلي.

ومن كلِّ هذا تجدني أخالف أفلاطون وجمهوريته الفاضلة، التي تنكّر بها للأسرة، واعتبرها عقبة في طريق بناء الدولة، حيث نادى بهدم الجدران القائمة،

قائلاً: إن الأسرة لا تحضن إلا إحساساً محدوداً، وهو الحياة ضمن الأسرة، اليوم تدعونا الحاجة لدحض الكثير من النظريات التي أُنجزت من قِبل عباقرة نجلّهم ونحترمهم؛ ولكن لا يمكننا التوافق مع الكثير من أطروحاتهم، فانتماء الفرد للأسرة والعائلة لا يتم إلاّ من خلال الاشتغال في سبيلها، والاشتغال لا يتمّ ضمنها،

وبالتالي لا ينعكس عليها فقط؛ إنما على العائلة الكبيرة، والتي هي الدولة، من خلال إسهامه أو إسهامها في دوران العجلة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، نحن من أنصار بناء الأسرة التشاركية التي تؤمن بالتعدّدية؛ وهي في مجموعها تشكل العائلة الكبيرة، أي: الدولة والأمة.

د.نبيل طعمة

 

شاهد أيضاً

استيراد الحلول

تحتاجها الأزمات، ليس فقط الطارئة والمفتعلة وإنما المبرمجة كأهداف استراتيجية مغناطيسياً؛ لكن جميعها مرصدة، وجاهزة …