العودة إلى الوراء

قد تبدو في كثير من الأحيان غير منطقية ضمن حالة التقدّم الاستثنائي؛ الذي يصرُّ العقل البشري على إحداثه، فحينما تكون سائراً إلى الأمام لا تسمح للتفكير بأن يأخذ بك إلى الوراء،

وهنا أفْصِل بين الثور الهائج، الذي يجسِّد السيل الهادر هادم السدود، والسلحفاة العاقلة التي تمثِّل الجدول الذي يحفر مجراه بهدوء، طبعاً ما هما إلا استعارة، نحاكي بها الفعل والأفعال الإنسانية، وهي ما نلحظ من خلالها وأثناء مراقبتنا لها الكثير من المقاربات؛ ما نستمد منها رؤى التأخر، أو التخلّف، أو حركة التباطؤ التي تنبئنا عن حركة الأفعال القوية أو الضعيفة،

فحينما تعود إلى الوراء دون أن تدري الكثرة فمعناه أنك تمارس ضرورات العاقل الفاهم لحركة التقدّم والمسير، وهذا ما يفعله العقلاء بين الفينة والأخرى من أجل إغلاق تلك الفتحات، أو اتقاءً للتحضيرات التي تتهيأ للطعن من الخلف، أو للاطلاع على حجم وكمِّ المكائد والشراك التي تنتظر لحظة رجوعك بفارغ الصبر، فإن عُدت واطلعت فككتها بهدوء الحكمة، وروية المعرفة، فإن فعلت فهذا عين العقل، وإن لم تفعل فالطريق إلى الأمام ممتلئة بالألغام.

نحاول أن نضيف ونشرح ضمن آليات احترام الوجود، والذي أضافنا إليه، وندع الباب مفتوحاً أيضاً لمن يضيف، فمن يغلق ينغلق، ومن لا يتقبّل لا يُقبل، ومن يعِ يتعظ.
ومنه نسأل: لماذا، وأية لحظة هي التي تطلبنا للعودة إلى الوراء، وما الغاية من هذا العنوان؟ إنك وأنت تتقدم إلى الأمام وأحسست من جوانب طريقك أو أمامك بخطر ما هل تتابع، أم أنك تتنبّه بأن استمرارك في المسير سيأخذ بك إلى الهاوية، حيث المصير المحتوم،

وحينما تكون مندفعاً اندفاع المستعجل، أو الأصمِّ الذي لا يسمع بوقائع المجريات من حوله، أو عندما لا تتقبّل لغة الحوار والنصح، أو لحظة انتباهك إلى فعلك، أو أفعالك إلى أنَّ خللاً ما حادثٌ فيها، وتصرّ على الاستمرار في الإنجاز إلى أين ستصل، وكيف هو شكل منجزك أو فعلك؟ ألم تحدثنا التجارب أن الدفاع أفضل وسيلة للهجوم، وأن الهجوم الذي لا دفاع فيه فاشل حتماً، بكونه يحتاج الإمداد،

وما معنى الكرّ والفرّ، ألا يعني لنا العود إلى الوراء من أجل التقدّم الصحيح والسليم سمة علمية وفهمية راقية، يستخدمها أولو الأمر أو القيّمون والمراقبون على إنجاز خطط وأهداف ومسارات الوصول إليها؟.

إنه موجود ضمن أفكارنا، يسكن عقولنا، يتابعنا دائماً من باب خوفه علينا، وإيمانه بما نفعله، أو سنقْدم عليه، وبما أنه منظومة تخضع لمثلث الزمن: الماضي- الحاضر- المستقبل وفقدان أيِّ عنصر من عناصره يُفقد الوجود معناه، كانت أهميته تسألنا عن أحد أضلاعه، ماذا يعني الوراء،

ومن منّا لا يمتلك وراءً ألا نتلمّسه في الجسد الإنساني يومياً، ونشعر به لحظة انشغالنا لحظياً؟، منطلقين بإيماننا بأنه موجود هنالك في أقصى الوراء الذي نستند إليه، طال أم قصر، بكونه يرافقنا، ولماذا ينبغي أن نعود إليه بين الحين والآخر، ألأنه يشكل الحماية والظهر المتين؟، فمن لا يمتلك خلفاً أو وراءً حقيقياً لا يستطيع التقدم،
وفي ذات الوقت تكون لديه الطامة الكبرى، وإني لأقصد من دخولي عليه تشريحاً وإيضاحاً أنه الماضي، والتاريخ، والجذور، والأصالة التي تشكل في مجموعها السند والمستند، نعود إليه لحظة وصولنا إلى النقطة الحرجة، التي تحوّل الحديد الصلب وتفكّك أوصاله قبل الانصهار.

لذلك ومنه أقول إن من لا يمتلك وراءً وخلفاً تنصهر مكوناته، وتعيده إلى نقطة الصفر، وفي حكم الضرورة القصوى، وحقيقة الوجود المادي والمعنوي أي اللامادي، وضمن التشكيل الكامل لكافة المحاور نجده حقيقة لا لبس فيها، وأهمها الشكل الإنساني المادي، أي الجسد،

فخلْف الإنسان (ظهره) مسطّح لا مكونات فيه، وأهميته تكمن في أنه ظهرٌ للإنسان، وصحيح أنه ممسوح؛ لكنه يحمي كامل مكونات الأمام الإنساني، أي الجسدي، وضرورة حمايته، ورعايته، والخوف عليه يعني لنا أن حضوره حقيقة تجب حمايتها لأنها جلية كالشمس .

الوراء لا يُشرى ولا يباع، إنما يُنجز ويُبنى ويُصنع على شكل الأساس، فالذي يبيعه أولا يعترف به يؤكد أنه آني لا منتمٍ، ولا يمتلك مستقبلاً، ولا يؤمن بشيء مهما لبس من أثوابٍ براقة سرعان ما تكتشف أنه هلامي، ومطاط في كل الاتجاهات، ما إن تبتعد عنه حتى يتقلّص وينقبض على ذاته، عارفاً ومُعرِّفاً عن ذاته بأنه لحظي جشع، أكول، ويحبُّ الاستحواذ على كلِّ شيء، لذلك حينما نتابعه نعلم أن لا مصداقية له، وحضوره وعدمه لا يلفتان الانتباه.

د.نبيل طعمة

 

شاهد أيضاً

استيراد الحلول

تحتاجها الأزمات، ليس فقط الطارئة والمفتعلة وإنما المبرمجة كأهداف استراتيجية مغناطيسياً؛ لكن جميعها مرصدة، وجاهزة …