شام تايمز – متابعة
صدر حديثا كتاب “الحضارة اليهودية-المسيحية: تشريح خدعة” (2025)، الذي تُقدّم فيه الباحثة والمؤرخة الفرنسية التونسية صوفي بسيس قراءة نقدية جريئة لمفهوم شاع استخدامه في الخطاب السياسي والثقافي الغربي المعاصر.
هذا المصطلح، الذي يبدو للوهلة الأولى كأنه احتفاء بالتلاقي الديني والثقافي بين اليهودية والمسيحية، لا يُعدّ، في نظر الكاتبة، سوى بناء أيديولوجي يستبطن استبعاداً ممنهجاً للإسلام، ويُوظَّف لتبرئة الذات الأوروبية من قرون طويلة من معاداة اليهود، بل ويُعيد إنتاج “آخر” جديد، يتجسّد اليوم في صورة المسلم.
تعود بسيس إلى الجذور التاريخية لهذا المصطلح لتُبيّن كيف أن أوروبا، بعد قرون من الإقصاء وممارسة العنف تجاه اليهود، ابتدعت سردية “الحضارة اليهودية-المسيحية” بهدف إعادة صياغة صورتها الأخلاقية والثقافية. فبدلاً من مواجهة تاريخها مع اللاسامية، عمدت إلى ضمّ اليهودية بشكل رمزي إلى هويتها الحضارية، مانحة نفسها صكَّ براءة متأخراً. وبهذا، تحوّل ما كان يُنظر إليه في الماضي بوصفه “آخر دخيلاً” إلى “حليف ثقافي”، ولكن في سياق يخدم هدفاً أكبر: تشكيل جبهة رمزية ضد الإسلام.
ترى الكاتبة أن هذا التواطؤ الجديد يُخفي عملية استبعاد مزدوجة: فمن جهة، يُطمَس الاضطهاد الفعلي الذي تعرض له اليهود في التاريخ الأوروبي، ويُحوَّل إلى مناسبة للتماهي والانتماء؛ ومن جهة أخرى، يُستَخدم هذا التماهي الجديد لإقصاء الإسلام من المشهد الحضاري الغربي، وتصويره كعنصر دخيل، عنيف، وغير قابل للاندماج.
وتُلاحظ بسيس، بدقة، أن الإسلام لا يُستبعَد فقط من خطاب “الهوية”، بل يُعاد تأطيره باستمرار ضمن صور نمطية سلبية: الإرهابي، المتطرف، الرجعي… في المقابل، تُقدَّم المؤسسات اليهودية في أوروبا بوصفها جزءاً لا يتجزأ من النسيج الوطني، وتحظى بغطاء سياسي وإعلامي يحميها من التعميمات. أما المسلم، فعادة ما يُحاسَب كجماعة لا كفرد، ويُطلَب منه أن يبرّر براءته على نحو دائم.
ولا يقتصر التحليل على البعد الثقافي فحسب، بل يتعدّاه إلى الجغرافيا السياسية. فبحسب الكاتبة، لا يمكن فهم بروز مصطلح “اليهودية المسيحية” من دون التوقّف عند مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، لا سيما بعد تأسيس دولة إسرائيل، إذ شكّل هذا الحدث تحوّلاً عميقاً في علاقة الغرب باليهودية، من موقع التهمة والصمت إلى موقع التبنّي والدعم. وترى بسيس أن هذا التحوّل لم يكن بريئاً، بل ارتبط برغبة الغرب في تطهير صورته، عبر دعم “الضحية” التي ساهم في اضطهادها، ولكن بشرط أن تتماهى هذه الضحية مع منظومته السياسية.
غير أن الكاتبة لا تتجاهل محاولات بناء الجسور بين الأديان، وتشير إلى وجود مبادرات للحوار والتقارب بين المسلمين والمسيحيين واليهود في فرنسا وغيرها، لكنها تعتبر أن هذه المبادرات تبقى هامشية، وغالباً ما تُوظَّف بشكل رمزي، بينما تستمر السياسات الفعلية في تغذية منطق الإقصاء والتفريق.