مقدمة كتاب “عن الطبيعة” بقلم الكاتب والفيلسوف “باتريسيو بريكلي”

كتاب “عن الطبيعة” مختارات من شعر “غابرييلا ميسترال”..

إعداد وتقديم الكاتب والفيلسوف “باتريسيو بريكلي”

 

منذ زمن بعيد، كان ريمباود يؤكد دوماً أن على الشاعر أن يكون رائياً، أي قادراً على رؤية ما هو قادم، الشيء الذي لم يحدث بعد ولكنه سيحدث بكل تأكيد.

يشارك الشاعر في المجريات الأحداث، ويتبع خطاها، ومسارها، ويطاردها ويفاجئها.

إن شعر غابرييلا ميسترال، وهي شاعرة تشيلية حاصلة على جائزة نوبل في الأدب، هو شعر “مصمم” من قبل رائية.

لقد رأت من خلال شعاع روحها أن الطريق يتبعه العقل سيصل قريباً الى الهاوية.

إن إفلاس العقل المتفاقم والمقرون بكثرة الكلام أتعبنا وجعلنا أمواتاً في عالمنا في يومنا هذا، الذي كان عبارة عن الغد بالنسبة لغابرييلا، فهي عبرت عن ذلك بطريقتها الخاصة من خلال كتابة شعر للأطفال وأغاني للنوم وتهويدات وغيرها: “إن الرجل الأعمى يجهل – تقول غابرييلا – إنها تترك وردة شعاع حية في كل مكان تمر منه..\قدما طفل\ كيف يمكن للناس أن يمروا دون رؤيتهما.

وتوجه ميسترال كلماتها في تلك الأبيات إلى العمى لدى البشرية حيث “لا يرون” ما هو إنساني بالفعل: قدمي الطفل، ركيزة المستقبل، أساس الغد، الشيء الأصيل، المصدر الأساسي للوضوح.

لا تضع ميسترال نظريات حول أقدام الأطفال الصغيرة، لكنها تصرخ بقلبها وتتهمنا بأننا ” أصبنا بالعمى”: “الرجل الأعمى يجهل \إنها تترك وردة شعاع حية في كل مكان تمر منه..”

إن الشاعرة تشير إلينا هنا – وهذا بعد آخر للشعر – وتتهمنا بأننا “أصبنا بالعمى والجهل”.

لا تقصد أن العمى يؤدي إلى الجهل وإنما الجهل يسبب العمى بكل تأكيد.

لقد درس دون خوسيه أورتيغا إي غاسييت هذه الظاهرة في ثورة الجماهير وكان هذا هو العمل الذي قام به أفلاطون في كافة أعماله: إزالة الأقنعة عن وجوه من يعتقدون أنهم على حق ووضعهم أمام الحقيقة العارية:

يتعامل معنا بارمينيدس في شعره أيضاً على أننا جهلاء وأننا مصابون بالعمى، لأننا لا نستطيع رؤية الحقيقة الواضحة.

لكن المفتاح الرئيسي في شعر ميسترال وقصائدها هو التركيز على المشاعر، على محرك الحياة، وليس على العقل والمنطق كما هو الحال في عصرها وفي يومنا هذا.

تلمع ميسترال في بلادنا بمشاعرها الصافية، فهي تكتب دون أي ملوثات، تكتب من قرية صغيرة، قليلة السكان وحولها الكثير من الأطفال الذين تعتبرهم روحها وأولادها.

إنها تكتب دون أن تصل إليها – من الناحية المجازية – التيارات الطليعية مثل الدادائية والتكعيبية والسريالية والمستقبلية وكل تلك التيارات التأملية والمضطربة.

إنها تكتب دون مخاوف، دون خجل، بخجل متواضع لكن بشجاعة.

وليس علينا أن ننسى أنها امرأة تقوم بعمل مرتبط بشكل خاص بالرجال إن أمكن القول.

ليس لديه النية في كسر أو إلحاق الضرر بأي حركة، فهي تشعر بالراحة في مكانها مع المحيطين بها.

تتمتع بذكاء متميز وهي تكتب بحنية ودون أي ادعاءات:في حنجرتي كلمة\ لا أطلقها وأتحرر منها\ رغم أنها تدفعني كمضخة دم \ فإن أطلقتها ستحرق العشب الحي \ ستدمي الخروف وستدمي الخروف وستجعل الطير يسقط…”
هنا لا مكان للمنطق، هنا يوجد ألم جسدي ونفسي كبير.

وما تحاول ميسترال إعلانه في شعرها يعتبر عالمي لدرجة أنه من بقعة بعيدة في العالم، من السويد حيث التطور والحضارة ودون تدخل أي مواقف سياسية وإنما أدبية للجميع ومستمر مدى الحياة.

فهناك في السويد، بلد التطور والتقدم، لا يوجد أقدام أطفال\ زرقاء بسبب البرد لأنها عارية لكن بالتأكيد يوجد الرجل الأعمى الذي يجهل\ إنها تتروك وردة شعاع حية في مكان تمر منه.

إنهم “المصابون بالعمى والجهل” الذي تكلمنا عنهم في الأعلى والمتواجدون بكثرة في تشيلي وكل بقاع العالم.

في عالم يسود فيه الجهل الأعمى والحقيقة تكون أبعد ما يمكن عن الاعتراف بها ومغطاة بالرأي السائد ومعزولة بشكل حتمي، تضع غابرييلا ميسترال نفسها إلى جانبنا كرائية تعيش المستقبل في الحاضر دون أي وسيط سوى الكلمة الافتتاحية والنبوءة.

فهي سابقة لزمانها، لديها من يقدرها لكن متابعينها عددهم قليل.

لسوء حظنا ولسوء حظ مصير شعرها فهي غير مألوفة، لابد أن ننتظر وقتاً أطول حتى نتمكن نحن – البرابرة – من إطفاء جهاز التلفاز والإنصات إلى أنفسنا لنهيئها كي نتمكن يوماً ما من السماح لآذاننا بأن تصغي – وليس أن تسمع – “أقدام الأطفال” حينها وفقط حينها سيكون هناك عالم آخر.

تم اختيار تسع عشرة قصيدة لغابرييلا ميسترال حول الطبيعة وتم ترجمتها من اللغة العربية إلى اللغة الآرامية وذلك من قبل الأستاذ والشاعر المتميز جورج زعرور وهو مدرس لغة آرامية، حيث نوجه له خالص شكرنا وتقديرنا واحترامنا.

يدخلنا اختيار القصائد هذا في عالم جديد من الشعر الذي يتم غناؤه وهذا يعني أن الشاعرة تغني وتنتشر باللغة التي تقودنا إلى لغة السيد المسيح.

شعرها هنا ليس شعراً مترجماً من “مكان” لم يعد ساكنوه يتحدثون لغته “مثل اللغة اللاتينية في كاتولو أو اليونانية في بيندارو”، وإنما يأتي مترجماً “مكان” مازالت اللغة فيه حية ويتحدث أهله بها، لغة في غاية القوة الروحية: الآرامية.

وهذه عودة إلى الأصول هذه هدية لشعرها وهدية لحياتنا وإنسانيتنا أيضاً.

شاهد أيضاً

القائم بأعمال سفارة تشيلي بدمشق “باتريسيو بريكلي” يشارك في احتفالية اليوم العالمي للغة الإسبانية في جامعة دمشق

شام تايمز – جود دقماق أقامت كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة دمشق فعالية احتفاءً …