الأسطورة

أُنجزت في ذلك العميق من مساحة الزمن القديم؛ الذي أوغل فيه إنساننا القديم المبدع وهو من أنجز لنا نحن إنسان الزمن الحاضر والمستقبل كلَّ شيء، تحدّث بها عن الحبّ والكره والسعادة والفرح، والألم والحزن، والبناء والهدم، والدين والكفر والإيمان، وضدّه عبر ما نبحث عنه الآن، والذي لم نستطع ولن نستطيع أن ننجز مثله، رغم محاولاتنا لتجسيد الآلهة التي توحّدت وتنزّهت وتفرّقت في زمننا المعاش.

أسألكم: من منّا وأقصد شعوب الأرض قاطبة قادر على إنجاز أسطورة عن المايا، أو الأنكا، أو جلجامش، أو الإلياذة، أو الأنياذة، أو زيوس، أو الراما، أو البراهما، أو أبرام..؟

فلم يكن لأي شعب وأمة من شعوب الأرض على اختلاف تنوعاتها وحدودها الزمانية والمكانية، والتي لم تُؤطر أو تتحدّد بالحدّ السياسي الذي لم يظهر إلا في الزمن القريب من ذهنية الإنسان الباحثة عن العيش اللحظي، أي: في الحاضر دون تأسيس على ماضٍ ممتلئ بنسيج تاريخي، تلهبه أسطورة ما أو أساطير.

والكلمة أتت من الأسطرة التي ترتسم حروفها على الأسطر الورقية، أو تتناولها الشفاه وتتداولها كرواية يحفظها التسلسل التاريخي المسقط على التاريخ، من مبدأ “سطّر كي يصلنا” ويتواصل من خلالنا مع الأزمان القادمة،

فهي ماضٍ يعيش في الحاضر ننقله إلى المستقبل، بفعل اجتماعنا وحواريتنا عنه، ليتشابه مع أيِّ إنجاز ماديّ يختلف عنه بأنه لا ماديّ، شكله كلمة مقروءة من سطر، أو متناقلة ومتداولة بدقة بالمحادثة، تُغني المقدّس والمحرّم المسموح والمشاع بين الإنسان، والممنوع في لغة الهمس.

سطر علينا وأسطره أو روى وحدثنا عنه وهي تخضع للتصديق أو التكذيب، من باب أحضر لنا الأساطير، ومفردها أسطورة، والروايات مفردها رواية، فإما أن تحمل سِمَة انتفاء الأصل فتظهر كنسيج تخيّلي يعيش في الأحلام، أو أن لها جذر بُنيت عليه، فظهرت منه شجرة وارفة الظلال كثيرة الثمار، يحلم بها المتلقّون، ويعيشون معها التخيّل أو كامل الخيال،

لذلك نجد أن جذورها فلسفية تتشابه مع البناء المادي أو العلم التحليلي، فتختلف بمحتوياتها عن الحكايا الشعبية، ومنها المقدس، حيث ارتقت إلى مصافّ الآلهة، وما على إنسانها إلا القبول بها، ومثالنا الآلهة التصويرية أو التخيّلية (لونا وأثينا أو عشتار) وقصص الطوطم،

حيث كان الإنسان مصدقاً لها واعتنق إياها، احتاجها الإنسان القديم فأبدع منها لغة التكوين، بكونه فقدَ سِرَّ معرفة الوجود ليعلل أسباب بحثه البصري، وليبدع رواية كبرى قابلة للعيش المديد، تبيّن حلول تلك الظواهر التي يتأثر بها الجمع لا الفرد،

فالرمزية والمجازية والعقلانية مذاهب ترسم صور الأمم، وتفاسيرهم وقراءاتهم للمآزق الفكرية؛ التي تجتمع بها العرافة والخرافة واللامنطق بصورة المنطق، واللامعقول بصورة المعقول، واللازمان المسقط على المكان في مخالفات ظاهرة لا تحمل جوهر التفكر إنما خداع البصر؛ الذي يرسم معايير تحدث التباين بين الأسطورة المؤسطرة على السطور، أو الظاهرة من بين الشفاه في الكلام عن باقي الأحاديث، وحينما نحوّل التاريخ إلى تأريخ تظهر الأسطورة،

أي إدخال الرأي الفردي أو الاجتماعي على السياق الطبيعي لحدوث الحدث، ومنها المحرّم الذي أدخل التابو لتتمتع بشكله، أي: تأخذ شكل المعجزة، ولتحمل صفة الخارقة، مثلها مثل أساطير الآلهة لونا، أو أثينا، أو جوبيتر، أو فينوس، أو اللات أو عبد مناة، أو أنكيدو الطوطم الذي اختصت به عشتار وقتلته؛ ليظهر بها الشكل النهائي الجامع بين صفات الآلهة، والتصرفات الإنسانية النادرة، فتبدو كخارقه رصينة مغلقة بلغة إلهية .

لم يستطع إنسان الحاضر أن ينجز أسطورة كمعجزة البراق، أو أسطورة إحياء الموتى، أو تكليم الإله، أو اختراع ميلاد جديد لأبرام أو موسى أو يسوع أو محمد عليهم جميعاً السلام، لم يستطع إنسان الحداثة أن يقلّد بوذا أو الراما أو البراهما أو حتى زردشت، أين نحن من كلِّ ذلك أي: من إنسان المعجزة الأسطورة، أين نحن من قصص وأساطير الأولين، هل نحن الآخرون؟.

د.نبيل طعمة

 

شاهد أيضاً

استيراد الحلول

تحتاجها الأزمات، ليس فقط الطارئة والمفتعلة وإنما المبرمجة كأهداف استراتيجية مغناطيسياً؛ لكن جميعها مرصدة، وجاهزة …