الأساس

طبعاً، لكلِّ بناء روحي أو مادي، أو الاثنين معاً؛ بعد تصالحهما واندماجهما ببعضهما أو انفصالهما أسٌ وأساسٌ يجذبهما إليه، كي يتضاعف حجمه ونتاجه، فبدونهما يغدو الوجود عدمياً، أو حالة من الفوضى التي يعيشها بلا فائدة أو معنى،

لذلك أجد من الضروري البحث في عنواننا؛ بعد أن داخلنا حول السقف وضرورة وجوده، ومستوى ارتفاعه وانخفاضه، وحقيقة توضّعه على الجدران؛ التي بدونها لا يمكن له أن يكون، والقناعة العلمية والروحية بوجود النوافذ والفتحات في الواجهات والجدران والأسقف، وإلاّ لما كانت له الحياة، ولَتحوّل إلى لحْدٍ بحكم عدم تواصله واتصاله مع الحياة،

فمنه نصل لتدارس الأساس؛ الذي عليه يُشاد كلّ ذلك، من حيث قوة الأحمال التي تستند عليه، وقيمة وقدرة تحمّله لها، والاطلاع على العمر الفني، وطرق استثماره، وأيضاً تفقّده بين الفينة والأخرى؛ من حيث قابليّته للتدعيم والترميم والفحص، كي لا ينهار أو يميل ومتى ينهار، أو إمكانية إزالته وإعادة بنائه، ومسافة بقائه شامخاً برجياً أو طابقياً أو أفقياً، وكم يحتاج من الزمن ليصبح مسطّحاً أجوفَ لا فائدة منه، أم هو على موعد لتلف بعض أجزائه، أم بانتظار قدرة أو قوة تستبيحه، لتأخذه على غفلة منه، ولتحوّله إلى أنقاض، ومن ثمّ تجعله رميماً تذروه الرياح بفعل القوى القاهرة .

ما علاقة الأساس بالمنجزات المادّية واللامادّية، ولماذا يسكن ويتوضّع بين المظهر والجوهر، وأيضاً لماذا ينمُّ عن قوة الأفعال وضعفها، وما هو مقدار التشابه بين الإنسان ومُنجَزه المادي بعد تطويعه لفهم أسس المادة؛ التي يستخدمها في عمليات بنائه، كيف يظهر الأساس المتين من صورة البناء – وهو المخفي -، وكيف نحكم أنّ هذا الأساس ضعيف دون أن ندقق في عمليات بنائه؟، ولماذا هو متعاكس: أقصد الأساس مع الإنسان والمادة؟،

فأساس المادة في الأسفل، وأساس الإنسان في الأعلى، وبشكل أدق: إن أيَّ بناء مادّي له جذور وقواعد وأعمدة، حيث تكمن بها قوّة البناء وانتظامه الدقيق، كما الإنسان الممتلك للأرجل التي  هي بمثابة أعمدته وقواعده المادية، والفرق بين المادي واللامادّي أنَّ عقل البناء المادّي في أسفله، أيْ تحت الأرض، وعقل الإنسان في رأسه، أيْ أعلى نقطة فيه .

بديهي أن نقول: إن لكلِّ شيء أصلاً، ومعنى، ومبدأً، ومبتدأً، أي أساساً، حتى في حالات الافتراض والتخيل؛ إلاّ الوهم والمستحيل فلا أساس ولا أُسس ولا تأسيس، وأسُّ الإنسان قلبُه، بكونه أول متكوّن في الرحم، والمستعد دائماً لاستقبال حبِّ الحياة ومتاعبها، ومن ثم عقله الذي سيقودها به، من أجل إنجاز خلية مجتمع، يتشارك فيه ببناء الأسس والركائز، من أجل السير عليها، وبها يرقى ويظهر منه الفعل والتقدّم والقوّة، كيف، ومتى، ولماذا، وأين هي الأسس المفترض أن نتطلع إليها، حيث تفرض وجودها بتجوالها ضمن الأساس العقلي والقلبي، قبل الشروع بإنجاز أيِّ مشروع بنيوي مادي أو أسروي لا مادي، فلقد غدت الحاجة ماسة جداً للبحث الجاد والحقيقي لحظة التفكير في إظهار أيِّ بناء للوجود.

هل يمكن استبدال الأسس، أو الأساس الكلّي أو الجزئي، وإحلال أسسٍ جديدة دون إزالة البناء أو ترميمه؟، وحينما نفرِّق بين الأسس المادية واللامادية نعلم أن الأسس العقلية هي المسؤولة عن بيان ذلك، كما أنها تعمل على إظهار الإنسان كمخلوق فاعل وحيوي، هي وحدها القادرة على استبدال بعضها، وإلغاء بعضها الآخر، أو إفنائها وإخفائها، بحكم خضوعها لنظرية مواكبة التطور، والحب للحياة، والإنجاز، أو إعادة صياغتها بصور المواكبة للرَّكب السائر، والذي لا يتقدّم إلاّ بعد امتلاكه لقواعد المنشأ؛ المتمتّعة بالجذور التاريخية، أي السلوك النظري العلمي والعملي؛ الذي نقيس به معايير النجاح والفشل.

من كلِّ ذلك يتأكد لنا أنه لابدّ من وجود أساس لأيِّ شيء نريد أن نحوّله إلى حقيقة، وهذا لا يتمّ إلاّ إذا امتلك الإنسان بصيرة عملية معرفية وفهمية، تُدخله دائرة البناء من نقطة المركز وحتى إنشاء الدائرة، ومن ثمّ تحويلها إلى ما يشاء من الأشكال المادية واللامادية .

إن أيَّ بناء يحتاج إلى أساس، وأهمّ ما تؤسسه هو الإنسان، أول ما نزرع به من أسس هو التعاون، والمبادرة التي تشتمل على العمل التطوعي والتنافس الشريف، فإذا تم التأسيس على هذه القواعد ظهر به الإنسان الاجتماعي الممتلك للإيمان بمجتمعه، كمكوّنٍ لبناءٍ فريدٍ وراقٍ. أما إن كان أساسه ملحاً- ومهما كان جميلاً- فقليل من الماء يذيب هذا الأساس، حيث لا يبقيه، ولا يزيد في جمال البناء، وارتفاعه وعرضه وقوته الظاهرة .

د.نبيل طعمة

شاهد أيضاً

استيراد الحلول

تحتاجها الأزمات، ليس فقط الطارئة والمفتعلة وإنما المبرمجة كأهداف استراتيجية مغناطيسياً؛ لكن جميعها مرصدة، وجاهزة …