التعدّديةُ تكوينٌ خلاّق

التنافس الإيجابي والإيمان بنتائجه جوهرها تحتكم للعقل والوجدان، لغة تدلّ على تطوّر المجتمع، ولوحة فنيّة جميلة،  يقرأ بها الآخرون التنوع الثقافي وقدرته على التكوين، ولذلك عنَت بأنها أكثر من شيء واحد، أو هي المجموع الذي يشكِّل واحداً، وبه الكثير من الأشياء، حيث لا يمكن أن يتنافس الإنسان مع ذاته.

وبالتطلّع إلى ما حولنا نجد أن عالم الشمال (شعوب أوروبا وأمريكا الشمالية) سبقَنا إليه منذ قرون، كم غدت الحاجة الاجتماعية ماسة للأخذ بهذا المصطلح عنواننا القديم الجديد، وتحويله إلى مفاهيم إنسانية، علينا جميعاً ترجمتها إلى واقع فكري عملي، إن أردنا تعميق التطوّر، واختصار ما فاتنا من تقصير أمام حركة تسارع الأمم الأخرى، فسلسلة الأمراض الفكرية المدرجة في قائمة فكر الشخصية العربية متعددة،

بكون مجتمعنا متنوعَ الانتماءات والإثنيات والتيارات، ما بين: القومي والمدني، والديني، والطائفي، والمذهبي، والسياسي، والاجتماعي، والقبلي بشكل خاص، أي:العشائري والعائلي، منهم من ينضوي تحت شعارات القومية العليا والعقائد السائدة، ويخفي بين جنباته قوميته الخاصة ومعتقده الذاتي، لذلك نرى أن التموضع في المكان، والتقهقر إلى الوراء سِمةٌ رئيسةٌ تتربّع على عرش التخلّف البنيوي العربي.

على الرغم من أن فكرة التعددية كمفهوم تتفوق على فكرة التعايش؛ الذي أعتبره وهمياً إلى حدّ ما، لأن كلمة التعايش تعني أن يحافظ كلُّ واحد على فكْْره ضمن الدائرة الواقعية دون الاندماج مع الآخر، بينما تطوُّر مفهوم التعددية يُظهر التشارك الحقيقي في إنتاج الإبداع المادي، وأقصد به العلمي، واستخداماته في شتّى محاور الحياة العامة: سياسياً اقتصادياً اجتماعياً يعود على الصالح العام، متجاوزاً الأنا الفردية،

متحولاً إلى المشاركة الكبرى، بعد امتلاك الشعور القوي، والمؤمن بتطور المجتمع من خلال تقديم أفضل النتائج، وفي ذات الوقت إعادة الموروث الروحي الديني إلى العمق الإنساني، وعدم استخدامه في الظاهر مع شديد الاحترام له، من خلال مفهوم احترام كلِّ واحد إلهَ الآخر، وعدم سؤاله إلا في الضرورة القصوى عمّا يعتقد روحياً، وبإرادته، وبذلك تنتفي مع التعددية تلك الانتماءات المناطقية والعقلية القبائلية العشائرية،

حيث تتطور بعد ذلك لغة الوطن الاجتماعي في أغلى ما يملك، والعمل من أجل إظهاره متطوراً، فتتجسد نظرية الحلمين: العمل العلمي الواقعي أولاً، والدفاع عن الوطن ثانياً، والاثنان نتاج تلك التعددية الإيجابية، وهي ترتسم على ملامح مواطنيها الذين يحصدون حضوراً على مساحة جغرافية تتمتع بالحبِّ، تمسح من العقل لغة الأنا، وتحرّر رؤية العقل، فاتحة زوايا جديدة، ومسافات أكبر تستحق التطلّع إليها.

الطبيعة الإنسانية تقبل التطوّر كحقيقة ثابتة منذ أقدم العصور وحتى اللحظة، وحين نعتبرها مصطلحاً قابلاً للتحقق ضمن المجتمع ننظر إلى المجتمعات التي أخذت به، والنتائج التي حصدتها من خلال تطبيقه، وكيف أنها ألغَت التناقض وأنجزت التطوّر بعد أن وسّعت مفرداته ومعانيه في الثقافة والاجتماع والسياسة، ولم تعد تمتلك؛ بل أكثر من ذلك انتفت فيها المصالح الطائفية، والعرقية، والمناطقية، ولم تعد تسعى إلى الحرية، بكون التعددية تنجب الحرية والديمقراطية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية .

إن فهم المعنى الحقيقي لمصطلح التعددية، وتحويله إلى مفهوم عام، يمنح الحياة الاجتماعية ميّزات حركيّة، ونشاط كبير في الذهنية الإنسانية، تؤدّي إلى إدارة آليات التنوع بلغة بسيطة وسهلة، كما يتحول هذا المصطلح المفهوم المعنى إلى قاعدة تسهِّل حركة الحياة الاجتماعية، وتسرّع إيجاد الحلول للمشكلات المتنوعة،

وحينما نأخذ المجتمع السوري أنموذجاً نرى أن التنوع الموجود على جغرافيته كبير ونوعي، فالأطياف الدينية منتشرة، والمذاهب العقائدية والفلسفية متوفرة، بظاهرها وخفائها، والتسلسل الطبقي واضح كذلك. من هذا نجد أن التعددية موجودة؛ ولكن تحتاج إلى تعميق مفهومها من أجل الوصول إلى تكوين بناء خلاّق.

لم يستطع أحد عبر كلِّ العصور أن يقدم مفهوماً للحقيقة من خلال وجهة نظر واحدة، لذلك كانت تعددية المعتقدات التي اعتنقها التنوع البشري تدعو لاحترام بعضها، وقبولها أيضاً لبعضها، من أجل الوصول إلى تلك الحقيقة؛ التي نعتبرها المحيط الكلّي، ونحن النسبي، أي: جنس الإنسان، وعليه أن يسعى باحترام للتنوع، ولنتاج الآخر، من أجل الوصول إليها،

وبما أن تعدد الثقافات وتنوع الحضارات شكَّلا جوهر الوجود وفلسفته، فقد غدا من الضروري تطوير فلسفة التنوّع الثقافي، وهذا ما ينبغي أن يتحمّله الإبداعيون والمثقفون على وجه التحديد، من أجل خلق مجتمع يحمل صفة التجانس وسماته،

حيث يؤدي إلى إظهار صفات إنسانية راقية، تعزز إنسانية الإنسان، وترفع من نسبته المتمتعة  بالعلمية والثورية المحفزة على الإيمان، باختلاف الوسائط دون تعارضها، وتقاطعها، واصطدامها ببعضها، والإيمان بأن جميعها تخدم الإنسان في الجوهر العام، والمظهر المختلف، لذا فإن التعدّدية تنجب التكوين الخلاّق الذي يدعو إلى احترام الآخر، ومستوى إنجازه، والانضمام إليه ومساعدته والاستفادة بالطاقة القصوى من تجربته .

د.نبيل طعمة

شاهد أيضاً

استيراد الحلول

تحتاجها الأزمات، ليس فقط الطارئة والمفتعلة وإنما المبرمجة كأهداف استراتيجية مغناطيسياً؛ لكن جميعها مرصدة، وجاهزة …