العيشُ والتعدّد

عنوان مثير يجذبنا إليه من أجل التمعّن فيما ينضوي تحته من معانٍ ومفردات، تأخذ بنا إلى الاعتراف بأن الإنسان بمفرده قليل وقليل جداً؛ لكن مع الآخر يغدو فعالاً وأكثر قوة، حيث يتعاون من أجل الاكتمال (أي إنجاز الأشياء)،

وفي ذات الوقت نجده في الإنسان المفرد كثير الحذر من باب عنصر المهادنة؛ التي يكمن فيها الترقّب وشدة الانتباه، بكونه يحمل في جوهره لغة تأخير المحتوى الخلافي والتضاد قدر المستطاع للمشاكل الكبرى التي تسكن مضمونه على شكل المفرد، المالكة للغة تعزيز التقسيم والانفصال، لا الإيمان بالجوهر، ولا يسعى لتشكيل الألوان، والاستفادة من وظائفها التي تشكل أسس أيِّ لون، فلا يمكن لأحد أن يتفرّد بأناه،

حيث سينفصل أو يُفصَل من الجمع أو المجموع عاجلاً أم آجلاً إن لم يتنازل، ويتقبَّل ضوابط وشروط التوافق والاندماج، فأفكارنا المفردة غالباً ما تكون تسلّطية لا تتقبل لغة التواضع، وتسعى كثيراً للتمرّد والعيش المشترك، لغة ترقّب كمن يتعايش مع مرض عضال يتقبلان بعضهما ويتعايشان بحكم الأمر الواقع، أو القوة الضابطة لهما(الدواء)، وأيّ خلل بينهما يؤدي للانقضاض على بعضهما.

هذا يؤدي بنا إلى التساؤل: من أين أنت، أو مَن أنت، وأين تعيش، وهل أنت مرتاح في عيشك، أم أنك بحكم الضرورة الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية مضطر للعيش في هذا المكان أو ذاك، بكون العيش لغة الاختلاف الفكري بكامل أشكاله وعقائده ومساراته العقائدية؟،

فالمكونات صور تعبيرية إن لم تؤمن بقيمة التعدد والانفتاح على الآخر من أجل تشكيل نسيج منسجم، غايته إنجاب رؤية واضحة، تعمل على تعزيز احتياجات العيش الحقيقي؛ الذي يؤمن بالجمع من أجل إظهار اللمع، كلُّ هذا يأخذ بنا إلى الإيمان بأن الوطن هو الأرض، والذاكرة، والعقيدة الأولى والأخيرة التي تؤتي التنوّع  للثمار.

سؤال: هل يمكن أن يكون هناك بستان بلون من الثمار واحد؟ من الممكن أن تقول: كرم عنب، وطبيعي أن يكون الكرم ضمن بستان التفاح أو الإجاص، وسهل جداً أن تتخصّص بزراعة الليمون أو المانغو؛ ولكن من الصعب جداً أن تأكل في كلِّ يوم لوناً واحداً من الطعام، فلابدّ من التنوع والتعدّد كي لا تخرج عن المألوف أولاً، ومن ثم كي لا تنتهي،

فالنوع الواحد كما الفكرة الواحدة، فإذا لم تتقبل نوعاً جديداً وآخر يعيش إلى جانبك فلابدّ من أن تنتهي وحيداً، أو أن الآخر الذي لم تتقبّله سيقف إلى جانب الضدِّ أي ضدّك، فهو سيستخدم كامل الوسائط المتاحة كي يتخلّص منك، لأنك لا تتقبّله.

فالتعايش مفهوم فكري يتشعب لبنود أو هو بحد ذاته بند من عدة بنود، أي: مجتمع يؤمن بالتعدد، وهو ما يقودنا إلى حقيقة فهم نظام استساغة الاختلاف والتنوع، كي نُعتَق من لغة التضاد، ونؤمن بلغة الضاد التي جاءت من ضاد،

إن الانتماء للوطن نعتبره أساس بنائه، كما أن الذوبان فيه يمنع الخطأ والانحراف، وقبول ثقافة الآخر، والتسامح من أجل بناء الأرض وإعمارها يعني قبول التعدد، وقبول الاختلاف، فيظهر العيش ضمن حاضنة التعدد جميلاً لا بل أكثر من ذلك رائعاً،

ومنه تكون المواطنة القادمة من الإيمان بالتوطين ضمن وطن هو الأساس والمنبع للتعايش تحت مظلة التعدّد؛ التي تدعو حين امتلاكها، والإيمان بها لقبول الآخر، وأقصد هنا التعدد الذي يؤمن بالتسامح الذي يلغي التعصّب المقيت، يبعده عن الذات والأفكار والقهر والتوسل، كما أنه ينهي العمل بوسائط التسلّط والقهر، حيث المظلة هذه تلغي التفرّد وتمنع لغة التصادم، مطورة رغبة الاجتماع تحت مسمّى الحوار من أجل فهم الآخر، وتبادل التقبّل والقبول،

وبدقة أكثر: لغة الاحترام، وضمن هذه العلاقة نجد أن المساحة الكبرى تحضر شخوصها من أجل بناء الهرم الإنساني، وهذا العنوان الذي لا نريد أن ننضوي تحته إلاّ بعد مناقشته بإنشاء الحوار المعمّق حوله من أجل توليد مفاهيم التعددية والأنسنة الإنسانية التي تكبر، وتتطور من أجل أن يظهر البناء الجميل إبداعياً لا قسرياً تحت قوى الضغط والإكراه.

وبنظرة متأنية إلى واقع الأمة العربية المدعوة لمواكبة الحداثة؛ نجد أنها لا تمتلك نظاماً عربياً مقدساً، بل هناك أنظمة، وكلّ نظام لديه مشاريع عقائدية مختلفة مما أوجد بينها الكثير من المشكلات التي تحتاج إلى علاج جوهري، ومنه تكون عملية التعايش قسرية، لا تمتلك فضاء التشارك،

الأمر الذي أضعف كثيراً من عمليات الإبداع التي تحتاج إلى فهم التعدّد، وعدم الشعور بالانتقاص، وإعادة صياغة فكر التعايش أو العيش المشترك على أسس واقعية، مما يعني العودة لفهم الآخر، من خلال فهم النسيج المكوّن أولاً للوطن الصغير، ومن ثم الظهور ضمن الوطن الكبير، الذي يعيش بصورة الأمة، وبواقع الاختلاف الذي يتجلى بأن كلّ قطر وطنٌ له عوالمه وظروفه وأبعاده.

د.نبيل طعمة

 

شاهد أيضاً

استيراد الحلول

تحتاجها الأزمات، ليس فقط الطارئة والمفتعلة وإنما المبرمجة كأهداف استراتيجية مغناطيسياً؛ لكن جميعها مرصدة، وجاهزة …