عالمٌ أمني

حديث الولادة، جديد وحديث ومستحدَث، يعمل على إنهاء الحبِّ وإحلال النظام والانتظام، بحكم التكاثر والتصاق البشر بعضهم ببعض، وأيضاً كفاعلٍ رئيس ضابط لعملية الاستهلاك،

الدكتور نبيل طعمة

وبما أن الجنس البشري أخذ يتصاعد فيه الحذر والحيطة والاحتياط، فهو متأهب يتأهب، متحفز يتحفز للانقضاض على ذاته وبعضه وكلِّه، وعلى محيطه القريب والبعيد، خوفاً من خوفه، الكل مستعد ويستعد ويتجهز، ويتسلح ويسلّح قواه وأجزاءه وأفراده، يشدِّد إجراءات الدخول إليه والخروج منه، ينصب الشراك والأسلاك الشائكة والمكهربة والملغمة، والبوابات الحديدية، والجدران المسلحة على حدوده التي تعني:

( انتبه إن الحديد موجود )، يزيد في تقييد المقيّد، ويبحث دائماً وأبداً في التعزيزات الأمنية: حواجز طائرة وثابتة للتفتيش، حتى الزواحف والطيور لا تمرُّ دون ذلك، لديه الأوامر بأن يعيدك إلى حالة العري، وأكثر من ذلك يدخل إلى أدق تفاصيلك بكل الوسائل التي أبدعها ويبدعها العقل البشري من الأسلحة- التحاليل الكيميائية – الأشعة النتروجينية والسينية -تصوير محتويات الجسد بالكاميرات على المداخل والمخارج، في الشوارع والحواري وعلى جميع المساحات المعاشة،

وأينما حللْتَ وتجولت فثمة أقمار صنعية تخترق وترى وتقرأ أدق التفاصيل بدءاً من الورق، الكلُّ مراقب من السماء ومن الأرض، من الإله عبر الملائكة، ومن الأنظمة عبر عسَسها، يسترقون السمع من خلال تكنولوجيا الهاتف الثابت والجوال، ومن الحاسب عبر الإنترنت والفاكس والرسائل المطبوعة إلكترونياً وخطياً،

لماذا ومن أجل ماذا، هل كل هذا من أجل عالم جديد، ماذا تعني لنا الألفية الثالثة، هل خلق الشكِّ والتشكيك بين الأمم والمجتمعات إلى أن يصل إلى الأفراد، ومن ثم بين المرء وذاته، وتخصّصه وخصوصياته، وبدقة أكثر بين المرء وزوجه، والأخ وأخيه، والأب وبنيه، والصديق والصديقه، والمحبِّ والحبيب وبين مظهرك وجوهرك ؟ .

عالم أمني أبدعه عالم جديد بامتياز، الأعراق عادت لتظهر من جديد، والطوائف والمذاهب، وسياسات الرقِّ والعبيد واستعمار البلاد والعباد، الفوارق تنمو نموّ النار في الهشيم، كيف كان الإنسان فيما مضى يعيش وحتى الماضي القريب القريب منّا، هل كان كذلك، ومن أجل ماذا كلّ هذا الجديد الحديدي الشديد ، وهو الموجود منذ أقدم القديم؟ .

نعم، عالمٌ أمني تملأه الحدود والصدود، وإجراءات التفتيش الدقيقة حول كامل مسافات تجوالك ومساحات حضورك، تحولها في المجمل إلى سجون كبيرة لا دخول لا خروج إلا عبر المنافذ الأمنية، والبوابات الحديدية ذات الأسلحة الكشفية، والجنود المدججة بالحديد، والمظاهر الأمنية وأدواتها غير التقليدية، كل ذلك نتاج الخوف، والخوف والتخويف منك، ومنه، ومني، ومنهم، من ماذا ولماذا،

طبعاً، كلّ هذا من الإنسان الذي ازداد خوفه من جوهره، لا من السماء التي يسكنها الإله، ولا من المعتقدات، ولا من الجماد والحيوان والنبات؛ بل منك أنت الإنسان شقيق الإنسان والمشتق منه بحكم التسلسل الإنساني؛  الذي عمل على أن يكون الشقيق والرفيق والصديق القوي قوياً جداً ضدك في مظهره، من أجل أن يخيف أخيه الإنسان، مبعداً طاقة الخير ومُحلاً طاقة الجوع والنّهم ليتشابه مع نار جهنّم حيث تغدو مقولة: هل امتلأت؟ فتجيب هل من مزيد .

المشكلة الحقيقية لم تظهر من مواد الأخشاب أو الأحجار؛ إنما هي في أسِّها وأساسها تتعلق بالحديد ونظم استخدامه، والسياسات التي أبدعها العقل البشري، بعد أن فهم فلسفة استخدام تليُّنه وتصنيعه، بكونه شعار قوة القيود التي تنجز السجون والحدود،

الكل يتسلّح بالعلم بالمادة، محولاً كل شيء إلى سلاح يعتبره ضماناً وأماناً أمام الآخر، أو أمام أفعال الحياة، لقد غدا الكلُّ يخاف الخوف، لذلك نراه يتسلح ويتمترس خلف سلاحه أياً كان شكله، من أجل ماذا؟ هل من أجل استمراره وبقائه، أي أن شكل العالم الأمني في جوهره يدور حول صراع البقاء.

عالم أمني يشتغل على الإنسان، يعيده إلى بشريته ضمن ضوابط أمنية كبرى وصغرى، يسيطر بها على كافة أنواع السلوك الإنساني، محولاً إياها إلى وظائف تجعل من الإنسان أداةً تسيطر على عقله لغة تكون أو لا تكون ضمن المسارات المستقيمة، دون أن ترى الجوانب، وأيضاً دون أن يكون لك أي علاقة بالمحيط، على الرغم من أنك فاعل فيه، بل أكثر من ذلك مطلوب منك أن تكون فاعلاً ومنفعلاً؛ ولكن ضمن حالة امتلاك الحذر الشديد من الآخر الذي يراقبك،

كما تراقبك جميع الوسائط الفنية والتقنية والتكنولوجية، كما يُشعرك هذا العالم بأن الذي بجوارك وخلفك وأمامك يتابعك وينظر إليك، يعمل كمسجِّل سمعي بصري رقمي كتابي، يذهلك لحظة سؤالك عن بعض تفاصيل ومفاصل حياتك العامة، والشخصية، وتصرفاتك، وأين كنت، وإلى أين ذهبت، وعلى أي جانب استلقيت، ومع من تحدثت .

د.نبيل طعمة

 

شاهد أيضاً

استيراد الحلول

تحتاجها الأزمات، ليس فقط الطارئة والمفتعلة وإنما المبرمجة كأهداف استراتيجية مغناطيسياً؛ لكن جميعها مرصدة، وجاهزة …