أين يسكن؟!

طبعاً، لا أتحدّث عن سكن الإنسان؛ بل عن تلك الأفعال والتصرّفات والحركات والكلمات والنظرات التي نصنِّفها بالشيطانية، نسأل عنها، محاولين معرفة موطنها ومنبعها، بكونها تشاغلنا وتدهشنا نتائجها المؤثرة، بحكم المفاجأة السلبية، وتضعنا في حالة استغراب، محدثة حالة التوقف لمراقبتها.د. نبيل طعمة وفي اعتقادي: أن الجميع يُجيب – أي جميع الإنسان على اختلاف مذاهبه ومشاربه ومعتقداته – أنها تسكن في التفاصيل البنيوية الطبيعية والإنشائية، المركبة والمعقدة جداً في الذات الإنسانية، وأيضاً بينه وبين الآخر،
أي: بين الاثنين والثلاثة والأربعة، والأُسَر والمجتمعات، وعلى الحدود بين الدول الصغيرة والكبيرة، كذلك ضمن المساحات الممنوحة للعقل الإنساني وتلافيفه اللامتناهية، وعلاقته بالقلب الاجتماعي المادي أو اللامادي،
وأقصد به الكثافة البشرية التي نعتبرها مسؤولة عن الأفعال الشيطانية، القادمة من الشهوة بكامل تنوّعاتها المادية والجنسية والسياسية،
حيث تغدو مسؤولة عن ذلك الصراع في الطبقة الواحدة والطبقات الثلاث، لا يظهر منها إلا لحظة الوصول إلى منابع الجمال وأفعال الخير، والإقدام والتطلّع إلى الأمام والصعود إلى الأعلى، بكونه ضدّاً لكامل تلك الأبعاد،
فهو موجود في الجينات الخاملة؛ التي تتوارثها الأجيال منذ قدوم ذلك الإنسان القديم جداً، يعيش بين الكريّات الحمر والبيض يجري معها في العروق ، ليس له شكل أو لون؛
إنما يظهر فجأة من تحت الإبط والتصورات الفكرية ومن بين الرماد أو الأكمة، يبعثر الأشياء، يدخل على السطور، نراه بين الجمل والكلمات والمفردات، عند النقاط والفواصل، وعلامات الاستفهام أو التعجب أو التشكيل أو نهاية السطور، حيث يشاغلنا توضّعها فنتوقف، عندها نتساءل عن أسباب وجودها،
أي لماذا هذا السؤال الذي ينبّهنا ويأخذ بنا ذات اليمين وذات الشمال، أو يدعنا ندور في الفراغ الذي يتراءى لنا به، فنحادثه ليرشدنا إلى مسالكه التي نراها مبهرة، ونصطاد الآخر بها ويصطادنا .
طبعاً، يسكن مفاصل السلوك الإنساني ليحول بين المرء وقلبه ، كامل الأشياء المستقرة المنجبة للنجاح والإبداع والإعجاب، فيسعى حينما يراها على ذلك إلى سحب فتيل أمانها وإشعاله، ومن ثم تفجير صواعقها، بغاية إحداث الخلاف والاختلاف،
فلا يناسبه ولا يتناسب معه أيُّ اتفاق أو توافق، وسكنه في مفاصله وتفاصيله، ونومه العميق ما هو إلاّ ليستفيق عند أول انكسار لفنجان قهوة، أو حدوث هفوة عفوية، أو وخزة إبرة تتقاطر منها نقاط دمٍ أحمر، حيث يرتعش ويرتعد الإنسان، فيتمكن منه صائلاً وجائلاً في قلبه وعقله إلى أن يجذبه إليه، وحينما ينال منه بعد أن ينقله إلى سكنه.
سؤال آخر أيضاً: ممّن يتمكن، ومتى يحرّك آليات الشرِّ لديه، ومن أجل ماذا؟، هل من ذلك الفاشل غير القادر على اللحاق بالركب ومواكبته، أم ذاك الممتلك شعور النقص، يسكنه كي يكمّله شراً ويعمل من خلاله، أم إنه نتاج الفاقة والفقر تنجبه، كيف ومتى يحقّ لنا أن نلعنه، أو نضربه كي نقضي عليه أو نلجمه، هل هو حقيقة تسكن أعماق حضورنا؟، يسكن الجوانب المظلمة لحظة تطوّر المادي، فيُخضعنا إليه، يُبهرنا حضوره لبرهة، وسرعان ما ينقضّ علينا .
أؤكد أن من رسمه وأظهره للوجود فنّان كوني كُلّي أزليّ، أوجده كي يظهر ضدّ الحسن والجودة والإضاءات على الإبداع، أي: القبح بكامل أشكاله وأبعاده الشريرة، حتى وإن لبس ثوب الحمل وأقنعك لحين، يظهره رسّامه الكوني بعد أن يخلع عنه ثوبه ليبدو على حقيقته ذئباً شرساً، تنفر منه كما ينفر منه الجمْع الحامل لحقيقة اللمع، وبدونه لا يمكن للخير أن يتقدم قيد أنملة.
إذن، هو يسكن في المفاصل، وحينما يتحرك ترتعد فرائص الإنسان، مذكراً إياه بما يفعله، يعرضه عليه، معترفاً بأنه أسهم كثيراً في دفعه للقيام به وإنجازه إليه، وأيضاً – وكما ذكرت آنفاً – نراه في التفاصيل.
أين يسكن الشيطان؟ أجيبك بالحب والمعرفة التي توصلت إليها، بالخبرة الفهمية أولاً، والعلمية ثانياً، والمعرفة ثالثاً، وأقصد حين أجيبك أنه يسكنك أولاً، فإن سيطرت عليه انتصرت، وعرفت أين هو وحيثما هو، أي أنه أمامك، وخلفك، وعلى يمينك، وعلى يسارك،
هو ذاك الشر الذي يتربّص بك، بكونك تحولت إلى خير ورفضته، واستطعت الانتصار عليه، فأقسم أن يتابعك، وأن يروي وينسج عنك رؤياك التي أفسحت له باب التخيل، فنسج من خلاله صورة وقدمها للآخر، زرعها في أعماقه، وتركه يفعِّلها ويطوِّرها بغاية إرباكك أو إيذائك أو إنهاء مشاريعك،
ولذلك قلتُ وقالوا من قبلي: إنه يكمن في التفاصيل والمفاصل التي تؤلم، أي: تتقدم إلى الأمام؛ لكنها لا ترعبه بكونها اختلاق شيطاني، يسكن التفاصيل والمفاصل، يعمل جاهداً من أجل إنهاك القوى البناءة الخيِّرة، وهدم الجمال وصور التقدم والإبداع .
د. نبيل طعمة

شاهد أيضاً

استيراد الحلول

تحتاجها الأزمات، ليس فقط الطارئة والمفتعلة وإنما المبرمجة كأهداف استراتيجية مغناطيسياً؛ لكن جميعها مرصدة، وجاهزة …