حوار السكارى

اجتمعوا في حانة المسؤولية ضمن مثلث التابو: الجنس- الدين- الصراع الطبقي، وإدارة الحانة التي تمثل القيادة لها، وفي ذات الوقت تعمل على توزيع الأدوار كي لا يحدث أيّ تجاوز فيما بينهم، وأيضاً على بعضهم بعضاً، تبادلوا الأنخاب حتى الثمالة.

شهدتُ الكثير الكثير من أحاديثهم، وكم أذهلتني أحاديثهم التي بدورها أذهلتهم من قبلي، بكونهم عايشوها وتعايشوا معها، وفهمت معهم فلسفة المعقول واللامعقول، هل يمكن أن يصل سعر ثمرة المانغو إلى مئة دولار؟ وتعني ( امض أيها الرجل في اللغة الإنكليزية Man Go )، الآن إحدى القصص أتناولها وأرويها لكم من حانة السكارى التي دخلتها، وحيث أني أستمع بها للقليل والكثير، فقد اخترت إحدى قصصها التي تابعتها ووصلت من خلالها إلى قراءة، أعرضها عليكم.

أيها السادة: طلب صاحب الحانة من موظفيه أن يحضروا له ثمرة مانغو، وكان يتبادل النخب مع صديقه الذي همس في أذنه أنه يحتاج إليها، وكان صديقه مهماً جداً،

استرقتُ السمع بكوني أجلس قريباً جداً منهما، وبحسب تراتبية موظفيه ذهب الأول، ثم عاد ليطلع الأعلى منه رتبة بأن ثمن ثمرة المانغو دولار واحد، فنقل الأعلى منه وظيفة في الحال إلى الأعلى بأن ثمرة المانغو بعشرة دولارات،

وبدوره نقلها إلى مدير الحانة: بأن ثمرة المانغو بخمسين دولاراً، والمدير تقدّم بدوره إلى صاحب الحانة مقدماً إياها له على أن سعرها مئة دولار، بعد أن قدمها له فما كان من صاحب الحانة إلا أن قال لصديقه الذي يتبادل معه الأنخاب كانت ثمرة المانغو رائعة المذاق،

سأله صديقه هل هذا من نتاج بلدنا فأجابه: نعم، لا ،لا أعرف بالضبط، وهل الجميع هنا يتناولون ثمرة المانغو؟ هزّ رأسه بالإيجاب، سأله ما سعرها؟ أكد له أنها بمئة دولار، التفت إلى ضيوف الحانة فوجد ثمار المانغو على طاولاتهم إلى جانب الأنخاب، أيقن أن الجميع مرتاح،

وفي اليوم التالي صادقَ صديقُ صاحب الحانة – باعتباره مسؤولاً رفيعاً – على فرض ضريبة بنسبة ألف في المئة على ثمرة المانغو، والتي عمّمها موظفوه على باقي المنتجات، وغايته إفادة منتجي المانغو، وخزينة بلدية البلدة؛ التي تفتقر للموارد، وتدير وتشرف في ذات الوقت على إنتاج المانغو والكثير الكثير من المشاريع الاجتماعية والاقتصادية .

بعد حين، زار صاحب الحانة صديقه شاكياً: ياصديقي لم يعد أحد يتناول المانغو في حانتي؛ بل أكثر من ذلك ولا أيّ نوع من أنواع الفواكه، وأنهم يكتفون فقط بطلب القليل من البزر الأسود يتناولونه مع كؤوسهم،

والأنكى من ذلك أنهم أيضاً لا يطلبون سوى أسوأ أنواع المشروبات الرخيصة، برأيك لماذا حصل هذا؟ ففكر صديق صاحب الحانة لبرهة، وطلب منه أن يرافقه بجولة ميدانية يطوف خلالها بين الأسواق بغاية معرفة أحوال البلدة، وظروف معيشة أبنائها، والخدمات التي تقدّم لهم، لأنه كان قد فرض الضرائب الكبيرة على مادة المانغو.

كانت المفاجأة كبيرة، والأحوال لا تسرّ القاصي ولا الداني، فالجنس والفتنة ينتشران انتشار النار في الهشيم، وأن الدّين بكامل أطيافه قد تحول إلى صور، يأخذ بها الناس، يشترونها ولا يتشرّبون معانيها ذات السلوك الأخلاقي، وضرورة التكافل الاجتماعي، وأن الجميع تحول إلى إظهار ما لا يبطن، واستمع إلى أحاديث أحزنته كثيراً،

واستذكر كيف أن أصدقاءه يدعونه في لحظات يندر حصولها، أي في أيام معيّنة، يجمعون فيها أصدقاءهم وعائلاتهم على ولائم ليرى النعيم والبحبوحة التي يعيشها مجتمع بلدته، وأن ما رآه ما هو إلاّ دجل ونفاق ومداهنة، من أجل استمرار مصالحهم ومنحه صورة الاطمئنان.

قرر المسؤول بعد أن جمع موظفيه أن زمن الرياء قد انتهى، وأن من لا يعمل عليه أن يعلن أنه غير قادر على تحمل المسؤولية، أي أن يخضع للمساءلة، أو أن يغادر، وأن الترياق يجب أن يصيب الجميع دون استثناء، اتصل بصديقه صاحب الحانة وواعده أن يزوره، شريطة أن يعيد بناء موظفيه، بكونهم يسهمون في نشر الخطيئة، ويتلاعبون به،

وذات يوم داهمه في زيارة خاطفة، وسأله: كيف هو حال الحانة الآن؟ أجابه صديقه بأنها في تحسّن، وأنه يستشعر أن الإيجابيات قد عادت تظهر من جديد لتعمّ، حيث الطلبات استغنت عن البزر الأسود، وبدأ يظهر بها المانغو والتفاح وبعض من اللحوم، مما أعاد للحانة دورتها الاقتصادية غير الكافية، لا نقول عنها ناجحة لكنها مقنعة يبدو أنني قد تناولت الكثير من الأنخاب وسكرت فاعذروني .

د.نبيل طعمة

شاهد أيضاً

استيراد الحلول

تحتاجها الأزمات، ليس فقط الطارئة والمفتعلة وإنما المبرمجة كأهداف استراتيجية مغناطيسياً؛ لكن جميعها مرصدة، وجاهزة …