الإنسان يطير

الطموح الأول للإنسان – حين تأمّل الطير- أن يطير إلى الأعلى وإلى الأسفل، إيجاباً وسلباً، بوعي أو بدونه، المهم أنه حاول كما حاول عباس بن فرناس، ففي الحالتين صعود وهبوط طبيعي؛ لكنه لا يستطيع القيام بعمليات الالتفاف والدوران، فإذا فعل سقط سقوطاً ذريعاً،لذلك كان الإنسان يعيش تحت مظلة الانتظام المقدّر والمحكوم عليه؛ ضمن القدرات العلمية المنطقية، والخارقة الاستثنائية، حيث يشكل من خلالها السرب، أو الأسراب الصديقة والمحبّة والفاعلة، أو ينطلق منها لتشكيل سرب جديد أمين وآمن، ضمن الآفاق الموجبة للطيران،

لذلك كان الطيران حقاً للجميع بعد امتلاك فنونه، من يستطيع منعه، ومن يمتلك أداة قصّ الأجنحة الحقيقية الممتلكة لحق الطيران، أو حق اصطياده، إن لم يكن مخالفاً في طيرانه؟ وإذا ما حدث وفعل بها سرعان ما تنمو من جديد، ترفرف على الأرض أولاً، ومن ثم تُقلِع من مركزها، بكونها تمتلك حقّ الطيران،

ومهما حاول المسؤولون عنها منعها، فهي تسكن طبيعتها وأصول نشأتها وخلقها، فالذي أوجدها منحها ميّزة قوة الطيران، ففي النظام المنتظَم تحت عين الكلّي، المراقب لنظام الهرم المبنيّ والمؤسّس على قواعد فوقها الطبقات، نظام أزلي أوجد قانون طبيعة الطيران.

إن من خُلق ليزحف لا يمكن له أن يطير مهما حاول الطيران، وحينما نُسقط هذه الرؤى الجوهرية على الواقع المعاش، نستذكر الماضي من حيث نقف، متطلعين إلى المستقبل، مراقبين حركة الوجود التي لم تدلّنا يوماً على أن ثعباناً أو زاحفاً تحول إلى طائر، أو نسراً زحف، نجد أن مثل (عنزة ولو طارت) القادم من حوارية هامان وفرعون التي تحدثت عنهما (على هامان يا فرعون، ومحاولة الفرعون إقناع حكيمه أن العنزة تطير).

أيّ طيران ممكن أن يستخدمه الإنسان الذي يحتاج إلى أدوات لا مادية توجد له الأدوات المادية؛ التي تمكّنه من الطيران، بعد امتلاكه للعلم والتخصّص به، والفهم لأسباب وجوده، ونتيجة هذه المعادلة ولادة الحبِّ للتكوين،

أي الاشتغال ضمن الحياة، بدءاً من بناء الذات الإنسانية وتكوينها، وتكوين الأسرة الاجتماعية والسعي لها، والإيمان بأن هناك مجتمعاً ينخرط فيه، يدعوه للإسهام في تطويره وانتهاءً بمراقبته، بعد أن يحطّ بأمان لإنجازاته أثناء رحلة طيرانه، فيكون كمن يترجل عن صهوة حصانه، كيف يحصل هذا،

وهل يطير الإنسان بكل هذه الأدوات أو معها، أو هي تطير وتتركه وحيداً، أم أنه يفرح حينما يرى أنهم يرفرفون ويطيرون باتجاه الصعود، أي التقدم والنجاح، مثل الأبناء حينما يكبرون وينتجون وينشئون تكويناً جديداً، بمعنى أنهم طاروا من العشّ الأول، ليبنوا أعشاشاً حديثة، فيستذكر الإنسان أنه أيضاً طار وشكّل بنياناً خاصاً به.

هل يمكن للإنسان أن يطير إلى الأسفل؟ نعم ممكن، وقد يسقط في الهاوية إن لم يحسن بناء تكوينه وكان هشاً، يطير إلى الأسفل من مبدأ أن الصعود إلى القمم يحتاج للجهد الكبير وتعلم الطيران بهدوء، والانتماء بالأصالة للأصالة، فإن لم يكن الصعود ثابتاً، ومنتمياً لجذوره ومؤمناً بها سقط عنها دون الحاجة لقصِّ أجنحته، بكونها لن تسعفه، أيضاً هل يستطيع الطيران بمفرده، أم أنه بحاجة للمجموع، وهل يمكن أن نحمل بعضنا إن لم يستطع أحدنا الطيران، أي: أن نأخذ بيده لحظة حاجته إلينا؟ لنتفكر في هذه العلاقة.

طبعاً، الحلم في الطيران حقٌ لكامل المخلوقات، وبشكل خاص الإنسان، الجنس الكوني الحالم  المتحرّك المتحوّل بحلمه إلى: سائر وطائر وسابح وغائص في أعمق أعماق الأشياء، ومستكشف لفضائه الواسع المحيط به، المتجول أبداً بين كواكبه،

أي ما فوقه وما تحته وما بينهما. إليك أنت أيها الإنسان هل تستطيع الطيران، بماذا، وكيف، وماهي أدواتك التي تمنحك ميزة الطيران: عقلك المتفكر بعد التأمل، أم قلبك الممتلئ بالحب الصادق أو الفاشل، ماذا يعني أن يصدّق قلبك عقلك، وأن يقتنع عقلك بقلبك؟،

في النتيجة من يستطيع أن يمنحك علم قدرة الطيران، هل سألت عقلك قبل قلبك: إذا توفرت لك طاقة وقدرة الطيران، إلى أين تطير، وفي أي مكان ستهبط، وبماذا ستطير، بالمال أم بالموقع الذي تصل إليه، وكيف ستصل إليه، كيف تخدمك أجنحتك في الوصول إليه، وهل سيطير بك إلى الأعلى، وفي حال اختلال أيِّ قاعدة من قواعد الطيران، ماذا سيحدث؟،

الاعتقاد المؤمن يقول إن الإنسان يطوف حينما يؤمن بالفعل اللامادي الحقيقي، أي السلوك والقيَم والأخلاق، وأعني بـ يطوف أي أن الروح تطير فوق السعي المادي، تراقب حجم الصحّ فيه، وكمية الخطأ المرتكب .

إن ما أقصده من كلِّ ما سرْنا به تحليلاً حول إمكانية أن يطير الإنسان؛ أؤكد أنه نعم يطير، بعد أن يصل إلى فهم آليات الحياة، وإنتاج الأفكار الخلاقة القابلة للتحول إلى مادي ولامادي، فتظهره بأنه كائن فريد، يدرك أنه موجود ضمن الكثرة، وليس وحيداً، فهو كائن نصفي، أي لا يكتمل إلا بالأنثى كي يكمل جنسه،

هذا أولاً، وثانياً أنه متسلسل، وكثيف، ومتشابه، ومختلف بحسن أفعاله، ونتاجاته التي تمنحه ميزة الطيران، أي الصعود والتقدّم والخلود، نعم يطير الإنسان بأفكاره وأعماله، فإما أن تأخذه إلى الأعلى وإما أن تهوي به أسفل سافلين.

د.نبيل طعمة

شاهد أيضاً

استيراد الحلول

تحتاجها الأزمات، ليس فقط الطارئة والمفتعلة وإنما المبرمجة كأهداف استراتيجية مغناطيسياً؛ لكن جميعها مرصدة، وجاهزة …