القبلة

تحدثت الأسطورة: أن الإنسان وُجد بجسد واحد ووجهين: أنثوي وذكري، أي أن كلّ وجه يحمل مكونات جنسه الأنثوي أو الذكري، ونتيجة إلحاح الطرفين ورجائهم للقاء الوجهين، قام الإله الراما بفصلهما، فحدث العناق الأزلي من شدة التشوّق والحنين وتداخل الشفاه العفوي، لتلتهب المشاعر بالقُبل، فكانت بها الولادة الأولى للحبِّ، وحينما نتأمل خلف الإنسان الذكر والأنثى نجده مسطحاً لا مكونات فيه،

ولذلك لا تتم من الخلف، وضرورة حدوث الالتفات من أجل التقارب، إذ تلتقي كامل الأعضاء محدثة وحدة اللقاء الجسدي، من أجل استمرار الإنسان على اختلاف صور الالتقاء، حاجة الحبِّ وأداته التعبيرية اللامادية التي لا تباع ولا تشترى، فإذا حدث وتحولت إلى مادية تكمن بها الأهداف الوصولية تغدو أشدّ مرارة من العلقم حين اكتشافها،

لذلك كانت رمزاً للعواطف الارتباطية والترحيبية بأنواعها:الغريزي والاجتماعي والدبلوماسي، كما أنها مفتاح الجنس الحقيقي، القابع في أعماق قلوب وعقول المحبّين، ونتاج طبيعي للأحاسيس والمشاعر، يتبادلها المحبّون، تعلّمها آدم الإنسان حينما شاهد النحلة تمتصّ الرضاب من بين شفاه حواء الغافية في أمان الله، حيث يبعدها ويضع شفتيه على شفتيها، لتكون القبلة الأولى في عالم الإنسانية الإيجابي، وهي ذات النحلة التي علمته بناء المسكن حينما أوحى الله لها كي تتخذ من الجبال بيوتاً، ومنها كان اللقاء الأول، وكان الحبّ الإنساني الذي أدى إلى بناء المنزل، وتكوين الخليّة وظهور العشق بين جنس الإنسان أي:الذكر والأنثى، أما قبلة الشرِّ فكانت حينما قتل قابيل هابيل، وأحسّ قابيل بذنبه، حمله، واحتاج ظهور الغراب ليعلّمه دفْن أخيه، فصار يقبّله لحظة أهال عليه التراب،

وسارت القبلة مع الحياة لتتحول إلى واسطة متميزة، نطبعها على الأغلب بعد حصول اللقاء الأول، وربما الثاني، وبعد تطابق النظر واتساع الابتسامة، وقد تكون بين الجنس الواحد على الوجنات، أو على الجبين لحظة الاستقبال والوداع، وتختصّ بالثغر -لا غيره من الأعضاء والحواس- صاحب الشفتين اللتين تخفيان خلفهما النفس والرضاب واللسان، ليتشكل مثلث الحبِّ بين الذكر والأنثى، ليتمَّ التعبير عنه من خلال مساره الذي يؤدي إلى تداخل الشفاه، وامتزاج الأرواح، وتحوّل الأجساد إلى سحر وفتنة في عيني بعضهما حيث يدخلان مركزه يتوهان فيه دون دراية عما يحدث خارجه ( وأقصد داخل المثلث ) .

القبلة لا تتمّ إلا بتقابل الوجوه وارتسام القبول، والإقبال عليها، ومنها كانت القِبَلة الدينية والروحية، أي: لكل دين قِبلتُه التي يقبل إليها ، وقُبلة الأم لطفلها والتي عرفَتها بعدما شاهدت وتأملت أفعال الطيور، وآلية إطعام أفراخها، فصارت تطعمه بعد أن تمضغ له الطعام تماماً، كما كانت تفعل الطيور، أي وضع فمها على فمه، واللسان ضمنه، وبعد أن يشبع ويمرح ويضحك يُضحكها مدخلاً السرور إلى قلبها، لتضمّه من جديد عبر ضمِّ شفاهه ووجناته، وهذا ما تفعله الأمهات حتى اللحظة التي نعيشها، ومنها تعلّم الأب تقبيل أبنائه، ليكتشف العلم الحديث أن القبلة تطيل عمر الإنسان، حيث تلغي بعواطفها الجيّاشة وما تسببه من ودّ وحميمية التوتر النفسي، وتلعب دوراً في انتظام ضغط الدم، مما يؤدي إلى ظهور الآثار الإيجابية على الوجه المُقَبّلْ أو الوجوه المتبادلة للقبل.

إن أجمل القبل تلك التي تتمتّع بالعفوية والفطرية واللهفة الصادرة من القلب بطبيعته الإنسانية، تتكون من مبادرة تعبيرية تنشئها مواقفها، فارضة حضورها مثل:قبلة الاستقبال، والوداع، والاعتذار، والاحترام، والتبجيل، والتقديس؛ ولكن أغلاها قُبل الحبِّ، ففيها يكمن كامل الاعتراف اللامادي بشكله المادي؛ الذي تحدثنا عنه،

وجميعها أيضاً كما قلنا لا تحضر إلا بالتقابل، وتبدأ من الجبهة على شكل الاحترام والطّهر، وعلى الوجنة تعبيراً عن الأخوة والمودة والصداقة، وفي الأذن وشوشة حبّ، وعلى الجفون حنان فائض، وفي العنق دغدغة وتحضير وتهيئة لفعل قادم، وعلى الأيادي ولاء واحترام، إنها همسة في الأذن أخطأت طريقها لتستقرّ على الشفاه من مبدأ “والأذن تعشق قبل العين أحياناً “، جوهرها رباط مقدّس بين قلبين امتلكا النار والنور؛ اللذين يدخلان الهوى إلى العقل فيهوي إلى القلب محدثاً الودّ ومن ثم العشق، والتعلّق والتخلّق فتلد الحياة الإنسانية التي تستند إلى الحبّ مكوِّن أسباب الوجود.

لقد جاء في رسالة القديس بولس الرسول إلى أهل روما: ” ليسلّم بعضكم على بعض بقبلة مقدسة”، وأمر الرسول العربي عليه السلام أن لا تأتي الرجالُ النساء كالبهائم قائلاً:” اجعلوا بينكم وبينهم رسولاً، قالوا وما الرسول قال القبلة” من كلِّ ذلك نجد ضرورة الاهتمام بنتائج القبلة، وتأثيرها على الحواس الخمس وباقي الأعضاء الجسدية، وامتلاكها لقوة السيطرة على عمل الدماغ الذي يسكن فيه مثلث الجنس، تحفِّزها العواطف والارتباط بشكل متزامن، مظهرة قوّة فعلها التي تتحول إلى محكّ حقيقي يمنحنا نتائج أو فشل أيِّ علاقة .

د.نبيل طعمة

شاهد أيضاً

استيراد الحلول

تحتاجها الأزمات، ليس فقط الطارئة والمفتعلة وإنما المبرمجة كأهداف استراتيجية مغناطيسياً؛ لكن جميعها مرصدة، وجاهزة …