النوافذ والفتحات

لا يمكن للأسقف أن تتوضع إلا بعد إشادة الجدران بحكم حقيقة البناء الذي يحتاجها كما لا يمكن لها أن تكون بلا نوافذ وإلا اختنق البناء وفني فبحكم حق الحياة وأسبابها نجد ضرورة وجودها ضمنها بكونها تحيط أيِّ بناء، وكذلك بين فواصله وتقسيماته الهندسية أو الجمالية،

أي: ضمن أيِّ بناء شيّده إنسان على وجه البسيطة، بعد أن فهم واستوعب بناءه الهندسي، وأدرك ضرورة وجودها لحياته، وحياة الكائنات الحيّة، فمنها يطلُّ على الحياة، وبها يعيش ويحيى، يتأمل، ويستنشق الأوكسجين، ويدخل الطعام، ويرى ويسمع ويشتمّ روائح الحياة، ليرفض السيئ، أي: يغلق نوافذه بهروبه من الضجيج، أو رفضه للروائح المزعجة، وكذلك يفعل حينما يفتح نوافذ بيته، كي يُجري تهوية لمكوناته وتفاصيله، أو يدخل أشعة الشمس والنور الطبيعي، فبدونها لا يمكن له العيش أو الاستمرار في حياته،

لذلك كانت أهمية النوافذ – التي يتطلع من خلالها إلى العالم بمجمله وجملته – مهمة جداً، ولا يمكن فتحها في الأسقف بكونها تحمل مسمّى الفتحات أي فتحة في السقف أو في الأسفل – المصرف الصحي؛ الذي يتشابه كثيراً مع نظام بناء الإنسان، المالك في تصميمه الهندسي، كبناء لفتحات الصرف الصحي، فلا يمكنك أن تبني منزلاً حتى وإن استخدمت موادّ من الألماس، دون أن تقوم بفتح النوافذ والمصارف الصحية ، وإلاّ كيف سيكون حاله؟ وبما أنه يشبه الإنسان بنوافذه ومداخله ومخارجه، كانت أهمية عنواننا الذي نسير إليه .

إذن، النوافذ تتوافق مع الرؤية الأفقية التكوينية، المبنية في الأساس من أجل الانتباه إلى المحيط من كامل أطرافه السمعية البصرية نقول انها متعددة فلا يمكن أن يكون الإنسان بنافذه واحدة وكذلك البناء وإلا كانت الحياة في اتجاه واحد ، وتبادل حوار التطوّر، بغاية تحسين التجانس الإنساني أولاً، والمحيط بما فيه ثانياً،

لذلك نرى أن الصانع أوجدها في المصنوع العموديّ الوحيد على الأرض، من باب العلة التي بدونها لا تظهر الجودة، ولا تنشأ المعاني والمفاهيم، ومن خلال ذلك التجانس ظهرت وحدة الروح والمادة، وحاجة المادة إلى الروح، أي أن جميع الوسائط تحتاج إلى النوافذ والفتحات؛ ولكن ما حاجة كل ذلك إن لم يكن لها روح تشغلها، وتشاغل وجودها،

لذلك كان الإنسان نافذة الإله، يطل منها على الحياة، ودعاه بعد أن منحه القوة والقدرة للتواصل مع النوافذ الحياتية، وبشكل خاص النوافذ الإنسانية الأخرى، بكون البناء في شكله النهائي بناءه الواحد القادم من أحديته، باعتبارنا نحن نوافذه المتجاورة والمتداخلة والمتسلسلة .

لماذا النوافذ أفقية تتواجد ضمن أي بناء مكعب – مربع – مستطيل- هرم شاقولي أو أفقي؟ ألا تتشابه مع نوافذ الإنسان العمودي المتحرك ونوافذه ومداخله الأفقية: العينين والأذنين والفم والأنف وفتحاته السفلية: أي مصارفه الصحية والإنجابية، وما الفرق بين النافذة والفتحة، وماذا يرِدُ إلينا من النوافذ، وماذا نستقبل ونخرج من الفتحات ؟.

ومنه نصل إلى أن النافذة حقٌ وحاجة لأي تكوين، ومنها يتشكل حضور النافذ الذي يسير في أمره وعمله بشكل جيّد، ليغدو مطاعاً، وأيضاً تشكّل النفاذ الذي في اللغة جواز الشيء عن الشيء، والخلوص منه، وكلما كانت نوافذ البنيان الإنساني والمادي وفتحاته جيدة وفعالة وسليمة؛ كلما كان نفاذه ونفوذه إلى الحياة وفيها قوياً وفاعلاً وحاضراً .

النوافذ تسمح بدخول وخروج الأشعة والنور والتطلّع، أي: أنها مستقبلة، ومن الممكن أن تكون مرسلة، وهي متعددة  وبالإمكان النفاذ من واحدة إلى الأخرى، أو إخضاعها لنظرية ضرورات الفتح والإغلاق، على عكس الفتحات التي تقبل الإدخال ولا تسمح بالإخراج والعكس أيضاً صحيح، وهناك أيضاً فتحات تسمح بدخول وخروج الأشياء المادية واللامادية، – كما تحدثتُ – أوجدها الإنسان واشتغل عليها، وأيّ نافذة في بنيان على وجه البسيطة لها درفتان، كما نافذة العين لها جفنان، ومنها أنطلق في رحلة التأمّل الحياتي، فأجد النوافذ العلمية، والأدبية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والنوافذ المتعددة في الحاسوب المشابهة لنافذة العقل الإنساني، حتى أن نظامه سُمّي بنظام النوافذ،

وإن البناء الوحيد المادي الذي ليس به أية نافذة أو فتحة سقفية أو مصرف أرضي، هو اللحد الذي لم يعلم أحد حتى اللحظة ومنذ عمق التاريخ كيف نتبخر به أو ماذا يحدث في داخله ، كما أن (التابو) التاريخي (المقدّس والمحرّم) لم تعرف له حتى اللحظة أية نافذة أو فتحة تسمح باختراقه.

لم يعتمد الإنسان طيلة مسيرة حياته، ومنذ أن وُجد وحتى اللحظة على نظام النافذة الواحدة؛ بل آمن بالتعدّد على الرغم من اعتماد العقل على نافذة يطلُّ منها، هذه النافذة العقلية تأخذ به للاطلاع على النوافذ المتعددة؛ التي وُجدت من عمق التاريخ، وتطورت عبر الزمن، إلى أن وصلت إليه، وفي ذات الوقت جميع النوافذ هي محصّلة لتلك النافذة العقلية، القادمة من الكلّي الكامل؛ الذي بنى في الإنسان النوافذ الأفقية،
كي يرى من خلالها تلك النوافذ الروحية، والفلسفية، والعلمية والثقافية، ويختار نافذة يتخصص بها، تمنحه صبغتها وطابعها، يحمل اسمها، فيغدو تحتها شرحاً لعنوانها أو مصطلحها .

د.نبيل طعمة

شاهد أيضاً

استيراد الحلول

تحتاجها الأزمات، ليس فقط الطارئة والمفتعلة وإنما المبرمجة كأهداف استراتيجية مغناطيسياً؛ لكن جميعها مرصدة، وجاهزة …