غسان مطر في أعماله الكاملة الغنائية البهيّة في مواجهة طغيان السرد!

سنبدأ من مقولةٍ فلسفيةٍ تبدو، للوهلة الأولى، بعيدةً بعضَ الشيءِ عن الشعر، لنتخذَها مدخلاً لتفكيك القصيدة عند غسان مطر، لمناسبة صدور ديوانه الكامل عن دار دلمون الجديدة في دمشق، فتلك الاندلاعاتُ الشعريةُ ليست لحظة انفعال عابر، بل تضرب جذورَها في الأعماق وتمتحُ من مخيلاتٍ ثرّة تغذيها حيويةُ الأفكار، وهذا التوصيف نراه ضرورياً لفهم القصيدة عند شاعرٍ اشتهر بربط الهمّ الذاتيِّ بالقضية..
سنبدأ من مقولة ناصيف نصّار في كتاب «طريق الاستقلال الفلسفي» عندما جزم بأنه لدى سعاده «تفلسفت الحزبيةُ وتحزّبت الفلسفة»، لنقرّ بصوابية الجزء الأول منها وهو «فلسفة الحزبية» ونعترضَ على الثاني وهو «حزبيةُ الفلسفة»، فصاحبُ النظرة الجديدة إلى الحياة والكون والفن، أرادها أسلوب حياةٍ لا يقتصر على المنضوين في الحركة، بل يشمل جميع المنتجين فكراً وغلالاً وصناعة، داخل إطار الفكرة والحركة اللتين تتناولان حياة أمة بأسرها، وأيضاً لدى منتجي الأمة السورية جمعاء الذين يمكن ألا يكونوا منضوين في الحركة، لكن مصبات إنتاجهم النهائي تدفق في ينابيع الحق والخير والجمال التي تشكل حيويةَ الأمة وإبداعَها منذ حقب التاريخ الجلي إلى الآن..
لا يمكن قراءة الشاعر غسان مطر، بمعزل عن هذه القاعدة الفكرية النقدية في الأدب، والتي يعد مطر قطعة من نسيجها، فالسؤال الإشكالي عن كيفية تحويل القصيدةِ إلى قضية والقضيةِ إلى قصيدة، ما فتىء يرافقُ النص الشعري منذ بدايات القرن الماضي، وهو ما سنلحظه واضحاً في تجربة غسان منذ بواكيرها الأولى في الستينيات مروراً بالأحداث التي عاصرها وكان جزءاً منها مثلما كانت جزءاً منه عندما استشهدت ابنتُه لارا في انفجارِ إحدى السيارات المفخخة في بيروت، أو عندما اجتاحت قوات اليهود ثاني عاصمة سوريةٍ، وكذلك الأمرُ عندما نشبت الحربُ الأهلية العبثية في لبنان التي صدّرت ملوك الطوائف كقادة تاريخيين.. فالتفسير الفلسفي النقدي الذي أشرنا إليه سيظهر جلياً في فطرية الشاعر وعقيدته، وهو يعيد صناعة الألم وإنتاجه على نحوٍ يبثّ فيه الأملَ أو يرميه في أبعاده الفكرية.. الخط البياني لقصائد طائر الدمع أو محترفِ الرثاء، كما يُسمى غسان، يرتفع سريعاً منذ الكلمات الأولى للقصيدة، ليصل ذروة الانفجار وتعذيبَ النفس في متنها، لكنه لا يلبث أن يهبطَ رويداً باتجاه الحكمة وقدرية انتصار الأمل، وإن كان هذا الأملُ مرسوماً على نحو فجائعيٍّ.. نعم، غسان، يجلد نفسه حتى في الحب، لكنه يترك الباب مفتوحاً لاحتمالات المستقبل وحتمية انبعاث طائر الفينيق عند الإنسان المجتمع الذي سيبقى الحاضنَ المحوريَّ في نص غسان، وهذا يدل على تلازم الذاتي مع القضية أو بالأحرى العقيدة القومية والنظرة الجديدة للحياة والكون والفن.. لنعد إلى البواكير في ديوان «العشَايا» الصادر عام 1965، يقول:
(لو خبروكِ، الشاعر الجبار مات،
فلا تنوحي
بل مزقي عينيّ
وصبي النار في جسدي القبيحِ
ثم انثري ذاك الرمادَ
على الجبال.. على السفوحِ)
وصولاً إلى:
(وإذا رأيتِ الناس تلعنُ ما أريدُ
فلا تشيحي
أنا من عِنادِ الشمس
من هزء الجحيمِ
قددتُ روحي)
دائماً، تنقضُّ خاتمة النص على بدايته عند غسان مطر، كأنه يُغرق في الهمِّ الذاتي ويأخذه الانفعال في استهلالات القصيدة، ثم يصحو على مهمة الشاعر الرؤيويّ فاتح الآفاق، لتنتقل الدفة إلى الشاعر المنارة وليس المرآة، وهنا يتدخل غسان المفكر ابن الفلسفة التي أشرنا إليها على حساب غسان المنفعل، ليغير المسار حتى في أحلك اللحظات هولاً، وتلك سمةٌ إنما تدلُّ على نقاءٍ ذهني أورثته إياهُ المدرسة التي انتمى إليها، فصار حتى في الحبّ، لا يجد مفراً من النصر، معنوياً كان الأمر أم مادياً، وفي طبيعة الحال، لا يعني رحيلُ الجسد في القصيدة هزيمةً بالتأكيد.. يقول في قصيدة «ضميني بعد» من ديوان «أقسمت لن أبكي»:
(ورقاتي كانت مترفةً كغصون الوعدْ
صارت غاضبةً غاضبةً كجذوع الرعدْ
ضميني بعدُ، خذي شفتي، لفيني كجذور الزمنِ
مذ مات أبي وأنا أشتاق يداً كالنجمة تحضنني)
ليختم هذا النص بالقول:
(كانت أمي شجراً ينمو ويظلل شمس الدارْ
سقطتْ والتهمتْ عينيها أشرعةُ النارْ
أنا ألمحُ في عينيها بعدُ زئيرَ النارْ..).
هكذا يأخذ غسان الأمور في خواتيم القصائد إلى قواعدها الصلبة ويربطها بجذورها كي تمتدَّ عميقاً في الأرض، فالأمُّ هنا هي الأمةُ، وزئير النار هو حيويتها التي تتجدد كطائر الفينيق، ولنتخيل قصيدة حبٍّ تحمل هذه الإسقاطات في قفلتها النهائية.. لنستعرض عناوين الدواوين الشعرية التي أصدرها غسان مطر خلال تجربته الممتدة من الستينيات حتى اليوم، فسنحصلُ على قواسمَ مشتركةٍ تؤكد العلاقة المركّبة مع القضية أو بالأحرى مع الفكرة التي كان لها الدور المهم في إنبات هذه القصائد وتوجيهها بشكل ما.. سنجد في عناوين هذه الدواوين كلماتٍ حاضرةً باستمرار وهي «الدم والبكاء والمجد والموت..» أما الحب فيأتي رديفاً لكل ذلك، وتلك السمةُ تؤكد محورية القضية أو الفكرة لدى الشاعر على حساب الهمّ الذاتي والانفعال الفردي.. لن نعثر على الحب مجرداً من القضية، عند غسان مطر، لكننا سنكتشف القضية مملوءةً بالحب، وتلك من صفات الشاعر والفنان والفيلسوف القادرين على الانفلات من شروط الزمان والمكان، والإشارة إلى جماليات تساهم في إعادة صياغة المخيلة التي ركنت طويلاً واستسلمت إلى المألوف والغازي وصارت ملامحُها الانتمائيةُ مهددةً بالضياع!.. يقول:
كذبتْ عينايَ، لستِ الحبَّ
أنت السيفُ في قبضة ثائرْ
وعلى حدكِ أبني معجزاتٍ ومصائرْ
وبه تبنينَ مني ألفَ شاعرْ
هذه العلاقة التفاعلية بين ذاتية الشاعر والقضية، تتعرض أحياناً للجفاء، ربما بسبب الفشل والعثرات التي عصفت بالقضية.. عندها لا يكون أمام الشاعر سوى الانكفاء إلى الذاتية ليحمي مملكة الحلم لديه، لكنه لا يلبث أن يلتقط أنفاسه ويعود للقضية من جديد عند أول نبضة أمل تؤكد أن الجسد قابل للشفاء والنهوض والاستمرار ومن ثم تحقيق الهدف.. استناداً إلى هذا التحليل أصدر غسان عناوينه «للموت سر آخر، وصار ضوءاً ونام، ومزامير الغضب الحزين، ومئذنة لأجراس الموت» فهي تصور تلك العلاقة المتباينة بين الذات والقضية.. لا يمكن تخيلُ شعر غسان مطر بلا موسيقا، وبقراءات مغناة عالية الصوت أيضاً، ربما لأن الشاعر واضح مثل نصل السيف، وربما لأن هذا الشعرَ لا يحتمل المواربة.. يصر غسان دائماً على وضع الإصبع على الجرح، فيجرح وهو يداوي.. لأن الناس، كما يقول، (يحتاجون أكثر من موتين حتى ينتبهوا).. ومن يدري فقد لا ينتبهون!.

شاهد أيضاً

ماهي حقيقة عودة “حنان الترك” إلى التمثيل؟

شام تايمز – متابعة تحدثت المخرجة “منال الصيفي” عن الأخبار التي تحدثت عن عودة الممثلة …