جدلية التصوّف مع هو

أيّ نوع من اللباس هو، وأيّ منهل نتجه لإرواء عطشنا منه، وأيّ مسلك يوصلنا للتوحد معه، وأيّ تبدل يحصل أثناء الصعود من أرض الفناء للقاء البقاء؟ وبما أنه خلقنا عراة، لنتأمل كيف نلد ونلج الحياة، فلنعلم أنه ليس في الجبّة ولا تحت اللباس، إنما هو جوهر الكائن المتحرك في صورته المادية، وإن معنى الحب العميق الذي يتبادل هو أنا، وأنا هو، حقيقة واقعة لحظة حدوث فهم التداخل والتبادل، كيف يكون حدسك مع محبوبك المادي من جنسك أو محيطك، وكيف تكون قدرتك على الاستئثار بحبِّه إن لم يحبك؟ فحينما تحبّه بصدقِ جوهرك يحبّك بجوهره اللامادي، فتغدو أنت هو وهو أنت، وحينما تتحدّث تتحدث باسمه بأنك هو، وحينما يتحدث هو يعني أنك أنت هو، ومنه كنت وكنت وكان، مثلث متساوي الأضلاع والزوايا، الحبّ والمكون والمتكون أي صورته صورتك، وشكله شكلك، وصوته في الحقيقة صوتك، وقيمته قيمتك،

ولذلك ومنه أخلفك في الأرض خلافته، فبدون الحب لا كون ولاكائن ولا كن فيكون، فالقدرة بين الأضلاع هي إنجاب نقطة المركز وبدون المركز لا بناء، فلو أراد أن نكون كذلك لبقينا على ما نحن فيه لحظة الخلق؛ ولكن أوجد العقل النسبي في الإنسان كي يرقى على الموجود الحياتي،

ولذلك كنّا على شاكلته اللامادية والذرية العارية، ومنحنا ميزة التأمّل أمام هذا الكون العاري- اللغز الذي ميّز الإنسان منذ ذلك الأزل القديم، ومنحه سمة التفكر والإبداع، أودعه الكون كي يتجول في بحثه المستمر عن الواجد الوجود الموجود، الأساطير-الحقائق- الشرائع والمعتقدات جميعها كونت أسئلة كبرى في ذلك العقل الإنساني القديم؛ أثناء محاولات نظمه لمسيره على كوكبه الحيّ؛ والذي سعى من خلال الإجابات عليها إيصالها إلى زمننا، و إلى ما سيأتي من الزمن القادم، وأن إيمانه العلمي دعاه للوصول إلى المطلق – أعني الكمال- ولم يستطع حتى اللحظة رغم قوة وسرعة تطوّره العقلي الهائلة،

وحينما فهِم عَلِم علوم انتساب الدائرة إلى المركز، فلا مركز بلا دائرة، ولا دائرة بلا مركز، وهذا ما ينطبق على المستطيل والمربع والمثلث والمكعّب والمنحرف وشبه المنحرف، علِم أنه لا بد من وجود مركز يعتبر نقطة الجوهر كي يظهر المظهر، وفهمه يؤدي إلى فهم الكون وعلاقاته المنتظمة بدقّة وقدر، آمن بعلم الجبر واعتبره درجة رئيسة من سلّم الوصول بالتعلق كي يحدث التخلق، أي:تحويل النصف إلى واحد؛ والذي لا يحصل إلا بفضل توفر صفاء النيّة وفهم المريد لما يريد والمسير إليه،

لذلك كان يحتاج إلى الزّهد الفكري الإنتاجي الإنجابي الذي يتأمّل الموجود، ويتّحد معه ضمن حركة الفعل وردِّ الفعل. لا علاقة له بالتقوقع أو الانعزال أو اللجوء إلى الصوامع ورؤوس الجبال، ولا لبس الصوف ولا هزّ الرؤوس المنحصرة تحت الطرابيش التي تحوّل أشخاصها إلى دراويش، أوالعمامات البيضاء أو الخضراء أو السوداء المذهبة والمفضضة، بكون العقل أخضر اللون وهو لون الطبيعة، يحبُّ موجوداتها، يتأملها يتّحد مع نظام خلقها، كي يصنع من خلالها قادماً جديداً إلى الحياة بعين البصيرة المتحدة، بعين البصر لا بفيل العميان، ولا الإيمان بالتحلّي فقط، وامتلاك مفهوم التخلّي الأجوف،

فلا يمكنك التخلّي عن الوقود بأشكاله المختلفة من أجل امتلاك الطاقة، فهو ليس الصورة المادية التي رسمها الإنسان المادي، وصاغها للشرائع، وأوجد من خلالها رسومات شكلت الطوائف والشِّيع والطرائق والبدع، فهو مختلف عن كلِّ ذلك، حيث يظهر من جوهر الحياة الروحيّة وفلسفة العلوم الماديّة الظاهرة للإنسان الروحي على الحياة، وقوته العلمية والعملية، بكونه لغة جمْع وفعل لمع، لا يؤمن بالفرقة والفراق؛ بل يؤمن بالبناء الحرّ، ومدى إفادته لإنسانية الإنسان؛ فكان بهذا الفكر أسٌ أُشيدت عليه أسس المقدس، الذي يبدأ من قبوه ويعود إليه، بعد أن ينبت منه التابو ويحكمه إليه، فإن لم يفهم بقي به، وإذا علِم عمِل بعلمه، ولم يشأ أن يظهر، بكونه شاهد الحقيقة مؤمناً بوحدته معها ليخفي ظهوره، فمن ظهر جُرّد من علمه وجُرّم في عمله، ففي التصوف لا حاجة للظهور بكونه يَقسِم الظهور،

وفي النهاية سكنه التابوت الإنساني، فحفظ استمرار الصح منه وتناسى أو نسي، وتجاهل غير الفاعلين في الحياة، على الرغم من مشاهداتهم لما يبنى، أي أنه صفاء القلوب، كي يظهر النور دون إشعال للأتون، وهو الحب الذي يبدأ من الأعلى ويهوي إلى القلب كالنجم إذا هوى لا من الأسفل الذي ينظره عالم الشهوة والانغماس؛ حيث عالم الخفاء والجفاء والعجلة، وعجالة العامة الكثرة من الإنسان المتنور ، فيكون كائن فطرة الخلق التي جُبلت حياته منها، وبني بناءً محكماً كي يسكن به نور السماوات والأرض، وتظهر منه لغة ” نور على نور”،

أي نور المكوِّن على الإنسان؛ الذي غدا نوره والذي بدونه لا يظهر النور، فلو لم يكن كذلك لما استطاع أن يكون الإنسان صورته وعقله، وفهمه لموجوداته ومحيطه، حيث يعود عليه إيمانا عميقاً بها، فيؤمن به من خلالها، متحولاً إلى شكل محدثها المفطور منها ضمن عملية الرتق والفتق، لتظهر من كلِّ ذلك نقطة اللّمع ومركز الإشعاع والإبداع والجذب الذي يلتئم إليه الجمع، صورته جوهر المسير بين الجبال، فإذا مال إلى ميمنة سنده جبل، وإلى ميسرة كان كذلك، فحدّد طريقة المستقيم، ولم يعرَف عنه إلاّ الاستقامة بين فهم خالق الخلق وصورته المتجلية في الخلق، أي أن رؤيته لا تتمّ إلاّ في الذات الفردية، وضمن محيطها الموجودة فيه، وأقصد بها الجماعية،

وعليه لم يتوقف عند لون بشري، ولم يتخصص بجنس أو نوع من المخلوقات: جماداً أو نباتاً حيواناً أو إنساناً، لذلك لم يكن يوماً يختص بعقيدة أو دين معيّن، إنما كان على الدوام منبعاً ثراً لجميع المخلوقات، حيث أنه خصّها كيفما وُجد بحكم وجوده في داخلها، وبشكل خاص في جوهر الإنسان الذي دعاه لفهمها وحكمها واستثمارها أينما كان.

إن جذب الملكوت لأعماقك يعني أنك أدركت معنى بنائك، وأنك بناؤه الذي يسكنه، فعليك أن ترتقي إليه كي يراك وتراه من أجل حدوث العشق، فلا معنى للروحي المجرّد ولا المادي المطلق، فالأول لا يكون موجوداً إلا بفضل إيجاد الوجود المادي، والثاني منتهٍ لا محالة بلا أثر إذا انحصر ضمن لغة ” أريد وأريد “ولم يفهم معنى المراد من أسباب وجوده الإنسانية،

والذي يحمل لقب إنسان لا يحصل عليه؛ إلاّ بعد فهم حضوره ووحدة وجوده، وحينها يكون حضوره على سلم الصعود يمسك بيده ويعي إنجاز ما أنجز في ذلك الزمن القديم جداً، يؤمن به وبإنجاز ذلك الإنسان القديم جداً الذي تأمل في أسباب وجوده، بعد أن امتلك معرفة أنه رسالة إنسانية مهمة جداً، وعلى عاتقه وكاهله يقع عبء إيصالها بالحبِّ والإيمان والخشية،

لذلك نجد أنه تذوّق جمال الخلائق، وسمع أصواتها المنبعثة منها، أنصت إليها فسمع ذلك الصوت الداخلي الذي يسكنه والنور المتولد فيه، رفع رأسه قليلاً فشاهد الخالق في خلقه، وعرف سرّ وجودها وكمالها من خلال تناظر أبعادها وألوانها وحركاتها، علمته الحبّ والتجانس والجنس، والدفن بعد الموت والحياة، كما عرف الواقعة بين نقطتين أنها مخلوقات خُلقت من خالق، خلقها لأجله فأحبَّها، ووصل من حبِّها إلى حبِّه لحظة رآه ينبلج من ذلك الليل الأسود نوراً شفقاً أشفق به عليه، حيث لم يشأ أن يبقيه في حلكة تلك الظلمة، كما أشفق على تعبه بعد أن أمتعه بنوره، فأعاده إلى ظلمته، لا جهلاً بل من أجل تقوية حبِّه

أي:صباحاً رأى معه جميع الألوان، ورآه آمن به حباً، فقال أنا هو، وهو أنا، من أجلي ومن أجله وجدنا معاً واشتغلنا، فهو الأحد الروحي الكلّي، خالق الحياة ومكوناتها الروحيّة بما فيه أنا، حيث أوجدني من أجله، ومن أجل تحويل المادة إلى صفات ومواصفات وتسخيرها لخدمة الإنسانية بعد أن سخر لنا الأحياء الروحية، ونتاجنا رسالة الحبِّ من أجل أن تستمرَّ الحياة، والفرق أنه الزمان الكلّي المحيط والروح الكاملة، وأنا النسبيّ المنفصل بكوني من روحه أي جزءاً منه .

متى، وكيف، ولماذا تقشعرُّ الأبدان؟ وحينما يستيقظ شعر بدنك، أي صوفك من أجل ماذا ؟ رعباً هلعاً خوفاً، أم وداً حنيناً شوقاً تشوقاً هياماً وعشقاً، ما علاقة كل هذا بالروح والعقل والقلب والخطأ والصواب والحزن والفرح، لا تعني بأي حال من الأحوال لبس الخشن، ولا الانعزال عن الناس من أجل التعبّد والزهد في الممتلكات المادية، ولا هي العيش ضمن حالات الاعتكاف، ولا تتقبّل تقبيل الأيادي على اعتبار أن فيها رائحة الفقه والفقهاء، ولا الطاعة العمياء لمالك الأشياء وموجدها ضمن مفهوم وحدة الوجود،

أي: تداخل الواجد بالموجود؛ كي تظهر وحدة المرئي واللامرئي، وإيضاح المرئي بالمرئي، واللامرئي بالمرئي، ولحظة اكتمال مثلث الوجود بأضلاعه: الواجد والموجود واللاموجود (المبحوث عنه) ضمن رؤى البصيرة لا البصر، لذلك كانت الآليات الناظمة والمخلوقة بقدر التشكيل تدعونا إلى فهم أسس البحث عن مقايسات الأضلاع الثلاثة؛ والتي بدونها لا يحدث المظهر المتجلي من جوهر المخلوق كي نفهم الخالق، ونحن نسير إلى نقطة المركز التي تنشأ نتاج تقاطع المحاور المنطلقة من الزوايا الثلاث، والتي تعتبر منصفة للأضلاع، وفي ذات الوقت تتقاطع هندسياً،

حيث تجبر على المرور من خلال نقطة المركز؛ التي تنسحب إلى الأعلى في حال جذب الواجد لها؛ كي يظهر الهرم بقمته المادية المرئية واللامادية الجوهرية في آن، ومعها ومنها ومن خلال هذه الوحدة  تتشكل الآلاء الفهمية المؤدية لحدوث امتلاك العلم بالأشياء، لقد رأى من رأى، ما لم يرَ فانتقل إلى أصحاب الرؤى، ونعِمَ مبتعداً عمّن لم يرَ واجب الرؤية، أي: عن الكثرة أصحاب المسير السريع المخلوقين من عجل، سريعي النزول إلى أجل أولئك المصنوعين من طين الوديان المتشكل من الحمأ المسنون، أمّا أولئك السائرون على وجه الأرض فهم بَين بَين، أي بين سفوح الجبال وقممها والوديان السحيقة،

وعليه نجد أنهم مصنوعون من طين لازب، أما أصحاب الشأن المترفِّعون عن كل تلك العجالة والعجل، وضيق المجاملة الواقعون بين المشكِّل للرنين لا الطنين، أما المتمتعون بحركة الريح اللطيف والجمال الطبيعي الخفيف، القادمون من ذاك الصلصال الفخاري البديع؛ الذي ما إن تلامسه حتى يدعوك إليه بكونه ممتلئَ الجمال الممتزج بالحب، مقترباً من الكمال، متمتعاً بالود والحنين، مغروساً بالتشوق للعشق والهيام، لا ينفصل عنه إلا بتقطيع الأوصال تراه خفيفاً كنسائم يوم عليل لا حرّ ولا برد فيه .

لماذا أفرض على بصيرة البصائر تلك الرقابة الجوهرية؛ التي تتمتّع بها عينُ القلب – الفؤاد، وماذا يعني وجود التنوع في الأخضر وتدرّجاته، وهو اللون الواحد، ومتى تكون أضلاع المثلث مختلفة الزوايا والقوى حتى وإن تشابهت في الصورة والرؤى، تحدد أبعادها عين البصر، وتختلف بعين العقل وقوة البصيرة، والغاية تصحيح الرؤية فالكل يرى ولا يرى، فمهما تساوت المثلثات وتطابقت وتعاكست واختلفت فإنها لا تمتلك قوى التشابه في الجوهر؛ رغم انطباقها في المظهر .

الأسماء لكل أوجدها الموجود بعد إيجاده وفهمه للموجد الذي أوجده، واتحد معه، أي: تداخل نوره بنوره، فكان نور على نور، وبما أنه علاقة النسبي بالكلي المحيط الأزلي السرمدي دعا الظاهر إلى الباطن كي يتجلّى الباطن على الظاهر، وهذا ما مررنا وسنمرّ به ضمن رحلة التداخل وأقد بها العشق لجمال الكلي الأزلي السرمدي المحيط، وعليه نجد أن التصوف ليس الممارسة الروحية الخارقة، والتي يُنظر إليها على أنها تتفوق على الحياة الكونية؛ إنما هي الحاجة إلى الوحدة الروحية التي تدعو لاستثمارها من قبل المناحي الاجتماعية والسياسية والاقتصادية،

وأيضاً هي فكرة وحدة الوجود الإنساني على اختلاف تلون أشكاله ولغاته، ولذلك نراها في الإيمان العميق بها على أنها صوف البناء ضمن البشر، يظهر على صورته المادية فيض الحبّ، حيث يتأمل الإنسان بذاته ويتخصص فيه، فإما أن يستمرَّ من يحمله إلى بناء حرّ؛ يسعى طيلة مسيره المرقوم والمحدد بين نقطتين في اللاوعي إلى بناء هرم، أو أن يكون مستأجراً كعبد لشَعر جلد يتساوى عنده النور والسَّحر،

فلا يسمع صوته ولا يدرك نوره، يطير بينهما، فلا يدرك ما ينبغي أن يصل إليه ، بكون الإدراك ابتعد كثيراً عن غاية المدرك، لهاثه مسير يبغي جمع المتع، مستخدماً لأجلها البدع، فلا يمتلك حدس والتأمل ولا جمال الرؤية فخبرة التجلي تبدأ في العقل فإذا تمتعت بها تخلصت من متاهات العالم المادي وامتلكت مفاتيحه التي لا تفتح إلا أبواب النور ، فمن فهِمه وتعمّق في علمه كان على قدر، ومن لبسه كان كما يكون الكائن المخلوق على الأرض القفر، فقرٌ ولا فقر، كمثل المادة موجودة والمتناول نهم، فلا هو من الإنسان ولا هو من البشر .

لماذا نحن صورته وخلفاؤه على الأرض، ومرة ثانية لماذا منحنا قوة الخلق المادي بعد أن أوجد نهر الأسرار الأبيض”اللبن”، ماذا يعني لنا التنظيم المعنوي، أي المشاهَد والمقدَّر بالمادة واللامعنوي، وهو غير المشاهد والمقدّر باللامادي ” الروحي”، ما معنى اتحادهما، ألا يتولد من هذه العلاقة الثنائية: المادي واللامادي قادم جديد اسمه الوجود المولّد للموجود، روحه الواجد وحركته بناء هرميّ لا يعرف الحدود، ينتمي إلى النقطة الصفر، ينطلق منها كي يظهر بكماله وتكامله مظهراً به روعة الإظهار والتكامل والكمال .

هل سأل أحدنا: كيف أن المظهر بلا جوهر جامد ميت لا معنى لوجوده؟، وفي أسباب الوجود تكمن الحركة والقوى، والأبعاد تلتقي على اختلاف مقايساتها، وتظهر بالمظهر المرئي جوهرها اللامرئي، فمن أين أبدأ، وإلى أين أسير كي أنتهي، أهي سدرة المنتهى أم تقاطع الملتقى، أم نقطة الولادة والمبتدأ، فإلى عقلك أدعُ إنجاز الخبر، هل تكتمل الدائرة بدون نقاط، وهل يظهر النور من النور، أم من الظلمة إلى عمق السواد ؟ إن لم تسمع صوتك الجوهري فلن تسمع، وإن لم تتحد بينهما لن تلد ولن تسير، والبقاء لصاحب البقاء، والفناء للمادة الجوفاء .

لم يكن بناء المعابد الدائرية ذات الداخل المظلم والزقورات في أور أبرام، ومن ثم الأهرامات، والأكروبولس في أثينا، وحضارة المايا والأنكا، وبيت لحم وبيت المقدس والفاتيكان، وإشعال الشموع إلاّ من أجل امتلاك النور الداخلي والوصول إليه والاتحاد معه، فنال أولئك العظماء الباحثون عنه ثمرة الوصول إليه، وبما أنهم عرفوه عرفهم وتعارف معهم؛ فكانوا وحدة واحد، فيه انجلى وتوحّد، فيه تخلّق خالق من روحه فتجدّد.

إذاً، ماهي العلاقة بين صفاء الجوهر وصوف المظهر، وما معنى طموح العاقل للوصول إلى مرتبة الصفوة، وصعوده إلى الأعلى العمودي على الرغم من مسيره الأفقي تحت مظلة الزمان، وبجانب جدار الزمن مستعيناً بالوقت، وغايته ليس فقط الاتحاد بل التصالح أيضاً مع بنائه، حاملاً طموحه وأحلامه بالظهور، كتشكيل فني ضمن لوحة المحيط الطبيعية، دون الحاجة أو الاستعانة بالرسّام المادي، فإذا اتحد معه وأقصد اللامادي صفا وارتقى، ولا أعتقد أن هذا يكفيه كي يصل إلى وحدة الوجود، ووجوده بالتجانس مع الموجود والواجد؛ ضمن مثلث حصول الرؤية بتحريض من وحيه الذي يطالبه باقرأ وتعلّم بالقلم، واقرأ واعلم فإذا علمت أثرت بإيثارك ونلت المراد .

إن روح العالم الحيّ والكلُّ حيّ: مادي ولا مادي جامد، أو نبات، أو حيوان، أو إنسان، روحه التي وزّعها ضمن الموجود، فكان فيها جميعها، جمَعها إليه فكان الكلّ فيه، وهو في الكلِّ، ومنه كان كلّ واحد هو، وهو كان أنا، وأنت، ونحن، وهم، وهنّ. من أنا؟ من أنت؟ من هو؟ ومن هي؟ من نحن؟ ومن هم؟. فأنا لا أكون بكونك إلا إن كنت فيَّ، وبدوني ودونك لا كنتُ ولا كنتَ، ولا كون، ولا كن فيكون .

يؤمن التصوّف بالمركز على أنه نقطة وجود سقطت على الصفر، فظهر الواحد العموديّ الذي استند إليها الخلق كمحور حركة، بكونه العموديّ الوحيد على وجه الكون متحركاً من أجل ربط وتهذيب وإنشاء وبناء أيِّ جسم مادي: هرمي – دائري – مربعي – مستطيل- أو مثلثي، ورعاية الموجودات الجامدة والحيّة، وعليه كان الإيمان بضرورة الاتحاد مابين الأشياء المادية واللامادية، حيث بدونه لا بناء- لا تطور- ولا إبداع، وفي ذات الوقت يشكل جوهر الاندهاش الذي ينطبع على صورة المندهش، إذ هو يراه في عمقه، ولا يراه غيره، فهما الحبّ والصوت القابعان في أعماق الإنسان، والمتجليان في الحس اللامرئي، حيث يتحول إلى سلوك فهم الحبّ وتوحّده مع المحبوب، والتجلّي بصفات الحبّ الحاملة للخشية من الخطأ والخطيئة، وتجاوزها دون الوقوع فيها، فيغدو المتمتّع به عالماً بعلم، ممتلكاً للحبّ، وفاهماً لمعاني الخشية أمام المحبوب لا خائفاً منه.

التصوف يعني الوسط أو الوسطية أو المتوسط بين الجمع، يؤمن بعلم العلم وتعلّم العلم كي يصل به إلى الخشية، يرفض الخوف إلا من القوة البشرية، شعاره الهيبة والتهيّب والمهابة مثلثه التعلق بالآخر والتداخل معه من أجل حدوث الإبداع، يعترف بالكل لا يستثني أحداً، بكون الكلِّ دون الأحد غير القابل للتثنية، ويعتبر أن التسلسل امتداد ومدّ، يحتاج المداد من المظلة التي يحمل عمودها بعموديته التي تظلّه، يؤمن بها، وبالوصول إليها كي يحدث المسير .

التصوّف تأمّل الحمام الطائر، وأسراب السمك السابح، وقطعان الدواب الدابة، وكلّ من دبّ على الأرض، فهو دابة يسعى إلى أن يطير ولن يطير، ولأن يسبح ويغوص فلا يستطيع منه الكثير، وبساتين النبات وجزر الغابات، فلم يجد لها معبداً ولا كنيساً ولا كنيسة ولا مسجداً، ولم يعرف لغة الطوائف؛ بل فهم وعلم فكرة الطواف حول المركز؛ الذي اعتبر الجمع أنه له وبه ومعه، ومنه يبدأ وإليه ينتهي، وبدون الأحد لم يكن الواحد الذي أوجد الكل، وبدون الكل ماذا يفعل الواحد اللامنتمي إلى الأحد، وإذا انتمى هل يفهم ويعلم ماهية انتمائه، وإلى ماذا ينتمي، وبأي طريقة يعلم ويفهم بعين العقل أم بفؤاد القلب، وهل يستطيع أن يتحول من عماء البصر إلى بصيرة النظر،

أي: أن يدرك علم الرؤية بطاقة العماء، فإن لم يدرك فسيبقَ هائماً على وجه البسيطة، ووجهه أما إن أدرك أن الأبيض يخرج من الأسود، وأن النور ينبثق من شدة الظلمة، ووعى وعلِم وفهِم أنه أدرك الخشية، وبلغ درجات الحبِّ التي تسير به إلى التعلق؛ الذي يؤمن بضرورة التخلّق بأخلاق فهم الآخر واستيعاب نظرية إله الآلهة، وأن لكل إله عليه أن يحترمه في صورة الظاهر، بكون الجوهر واحداً تَوزع على الكلِّ، فمن فهمه حصل له الفهم، ومن لم يفهمه حصلت له صورة الحياة المنحصرة بين البداية والنهاية، بين الولادة والممات .

هل يستطيع أهل الشرائع القادمة من الدين الواحد، وفروعه المجتزأة منه، أو ما يسمى بالأديان أن يعترفوا بآلهة بعضهم؟ حيث أن كل واحد منهم رسم إلهه على طريقته، فمنهم من نزّهه، ومنهم من عذّبه وحمّله آلامه، ومنهم من شخّصه وتناقش معه على الرغم من أنها تنزيل سماوي، وأيضاً الديانات ذات القيم الوضعية، أو الثقافية، أو الوجودية بنتائجها جميعاً أدركت أن هناك إله أعظم وزّع بينهم نظريات الحبِّ، فنسج منها كلّ واحد نظريته الخاصة،

وكلّ ذلك من أجل أن يصلوا إليه ويدركوا قيمة امتلاك فهم حقيقة القشعريرة المتجلية على صوف البدن، أي جلده وشعره، حيث تظهر الخشية الممتلئة بالحبِّ، أي: قبول الآخر كيفما كان، وأيّ منهج سرمدي انتهج وبه آمن، لا تكفير مع التصوف بل تفكير وتفكر وتأمل، ولا إكراه في الدين، فكمية الحبِّ تبنى على درجة الإيمان أي دِينٌ ودَيَن، ليس هناك من كافر، بل درجات للحب يقاس بها قوة فهم الإنسان للإنسان وللموجود المحيط، ومقدار عطائه، ومن يكفر يخرج من دائرة الحبِّ، ومن يخصص لا يعلم، فالقائلون بأن التصوف يخصّ مذهباً أو طائفة أو شريعة لا يمتلك علم التصوف، وبما أنه علم الحب نجده يمتلك فلسفة جوهر العمل ونتاجه؛ الذي يقيِّمه أهل العلم به، لا أولئك العامة الذين لا يدرون عن كل ما بدأنا به وسرنا إليه شيئاً.

لماذا تحدثتُ عن التصوف بهذا الشكل، وفرقت بينه وبين النظام والموقف الفكري، وأردت إيضاحه على أنه منهج وأسٌ حياتي، رافق علاقة الخالق بالمخلوق الإنساني الأساس ولم يفصل بينهما، وبدون فهم هذا المنهج لا يمكن حضور فهم البناء الذاتي والفكري العقلي في الإنسان، فإذا حصل لن يضلّ الطريق أو يتيه فيه، فالأنبياء والأولياء والرسل وأهل الحضور من طاقة العناء؛ آمنوا بأن النور ينبثق من الظلمة الموجودة في أعماقهم،

كما انبلاج النور من الغسق والأبيض من الأسود، فإذا عرف الإنسان أن النور داخله احتاج إلى إيجاد النور المضاف لإضاءة الظلمة الظاهرة على الإنسان، وهذا ما فعله العلماء بعد فهمهم العلمي العميق لحاجة الضوء الظاهر من أجل أن يبحث الغير العارف عن المعرفة، ومنها كانت الشمعة التي يعتقد الكثيرون وهم يضيئونها في لحظة وجود الضوء من أجل الرؤية الظاهرة، وجوهرها الذي نحتاجه هو رؤية جوهرنا،

لهذا تراني أؤكد على فهم صوف الجسد الذي يظهر لحظة صفاء الجوهر، فيقشعرّ من شدّة الحبِّ، أي صورة فهمه للموجودات وتداخله معها، لتتجلى وحدة المظهر والجوهر، فما نراه من صورة السماء العارية وصوفها النجوم الظاهرة على جسدها المحيط؛ يعني أنها منعكسة من جوهرها كما الأرض العارية تحمل موجوداتها، أي: صوفها، والبحار العارية تخفي ما بداخلها إلى أن تغوص في جوهر كلِّ ما ذكرناه، ولو شاء المكوِّن لخلقه العاري ونحن منه أي في خلقنا عراة أن يلبسنا، لكان ذلك من مبدأ كن فيكون

أي: أننا عراة، ولذلك كان صورته وشكله وبناءه الذي يسكننا يتجول في مضمون بنائه، وأن فهم عملية البناء أي الساكن والسكن الذي يتحوّل باتحادهما إلى مسكون، أي: البناء والروح، فلكل بناء روحه، وإلاّ لا حياة، ومعه وبه تظهر وحدة الوجود .

لا علاقة للتصوف بالتكهّن والكهنة والرهبان والحاخامات والمشيخة، ولا بنظم الإمامة، ولا بدوران الكواكب السبعة حول المركز، وأقصد التمثيل البشري الذي اعتُمد كطريقة، وإنما علاقته بفهم رحلة طواف الروح من أجل الوصول إلى مسير السعي، فحساب الذات غايته تنظيف البيت المعمور، أي: البناء الإنساني من أجل أن يسكنه المكوّن الكلي، فإذا حدث وسكن تحرّك الجسد بطاقته المادية إلى مسير السعي الخلاّق، والكلّ يسعى لحظة فهم الارتقاء والترفع من أجل أن يتحوّل إلى بنّاء، ويبني في الأرض والإنسان، ليكون قد وصل بعد مشاهدةِ وتقييمِ ما أنجز وحصل، حيث يسجّل إنجازه كأثر متصوّف فاهم لفكر التصوّف.

وبما أنني بدأت ببيان أن الكون لغز إنساني لا بشري، وأن الإنسان مخلوق من طبقات علوية ووسطى وسفلية، أي عامة وخاصة وخاصة الخاصة؛ أختم قائلاً:إن معنى التصوف الدقيق (الخشية)، وجوهرها أعلى درجات الحبّ، فحينما ينظر المحبُّ إلى المحبوب في داخله يراه جوهره، فيحبه ويتعلق به ويخشى عليه ليعود فيض جوهره على مظهره، فنرى به وحدة الوجود، يعمل ويبني لا غاية له إلا العلم القادم من التأمّل بما يريد أن يصل إليه كي يفيد، فلا حياة للمتصوف الحقيقي إلا بالعمل من أجل نصرة المخلوق الذي يسكنه الخالق،

وأشير إلى كامل المخلوقات الحيّة من جماد ونبات وحيوان وكون؛ هي محيط محكوم من الإنسان الذي خُلق كاملُ الكون لأجله، فالحبّ وحدةُ واحدٍ يتجلى على بعضه، والغاية إحداث نظرية الحفاظ والإبداع على الأشياء وتطويرها، فمن المسؤول عن ذلك، ومن يحمل المسؤولية؟ فإن لم يتمتّع بمفاهيم الحبِّ والخشية التي لا تحصل إلا للعلماء؛ الذين يخشون من شدة فهمهم للحبّ الذي ينجز لغة وحدتهم مع المحيط الذي يسكنهم ويسكنه، فيخشون إحداث أية إساءة لمحبوبهم المتجلي في الصخرة، واللّوحة، وسُلّمهم الموسيقي، وحركاتهم التي يتمثلونها، والغاية تمثيله كسفراء وقادة وباحثين وكتاب عظماء، يتحدثون عن أنفسهم لحظة إيمانهم بالتحدث عنه، فحينما يدركونه يدركهم بقوة فعلهم، فيريد ما يريد وهو بداخلهم ليعملوا بإرادته أي إرادة حاجة محيطهم، والتي تتشكل في صورة إرادتهم، من مبدأ ” أراد فأردت وأردت فأراد” هي وحدة واحد فيه انجلى وتوحدا… فيه تخلق خالق من روحه فتجددا .

د.نبيل طعمة

شاهد أيضاً

استيراد الحلول

تحتاجها الأزمات، ليس فقط الطارئة والمفتعلة وإنما المبرمجة كأهداف استراتيجية مغناطيسياً؛ لكن جميعها مرصدة، وجاهزة …