الإبداع

لا ينتج في الفراغ اللحظي، أو السياق التاريخي الطبيعي؛ بل يجب أن يسوده امتلاء جغرافي، أي: الهوية، والنوع، والجنس، والمخزون المعرفي، ليخترق الأزمنة الثلاثة: الماضي والحاضر كي يدخل إلى المستقبل الذي نحتاجه، إنه يولد خارج رحم الزمان والمكان، ليكون ولوداً يأخذ شكل الانفراد، تاركاً بصمةً تسجّل، فتعطي الانبهار كقادم جديدٍ مختلفٍ عمّا يحيطه،
فالحوامل التاريخية للفكر والعلم والفلسفة كتراث مؤطّر ينساب بين ضفتي الزمان والمكان: هي جدران تحجب البصر عن رؤية شمس الإبداع؛ إن لم تخترقه، وإن بقيت تسير بينهما على أنهما الخلود النهائي لعملية المسير الطبيعي، وعندما يتحرّر الإنسان من الضغط السلبي للأفكار السابقة، في تلك اللحظات التي يجب أن يدرك من خلالها ما لم يدركه سابقاً؛
حين ذاك يمتدُّ بصره، فترى بصيرته آخر مدى ينتهي عنده فكره من جديد، وعند ذلك تبدأ حريته ليمتلك إرادته، عارفاً ذاته، مهيأً لإدراك الحقيقة التي تعطيه الخطوة الأولى في الإبداع، والتي تحدث بتوفر الحبِّ بينه وبين المادة التي يتعمّق بها، فيتحول بذلك إلى وحدة متكاملة معها، وتخصّص فريد، فينتج وينجب الإبداع .
إنه نوع من التعود العقلي، وهو إنتاج شيء جديد، أو إنه قدرة عقلية مركبة من عدة قدرات، تندمج مع بعضها في بوتقة وتصهر لتسكب ناتجاً جديداً، كما أن تجاوز الروتين العادي والتقليدي في التفكير، والعمل والقفز فوق حواجزها يؤدي إلى ظهور رؤى جديدة، وانفتاح آفاق لم تعد معهودة .
إن الإبداع حصيلة عملية ثلاثية، تتجلى عناصرها في: الأنا الأعلى، والأنا الأسفل، والاتحاد مع المطلق الكلي، فإذا تمّت هذه العناصر وتحولت في اللاشعور إلى شعور حدث الإبداع، والمطلق الكلي هو المتجلي في الموجودات وعبر المحيط الحيِّ والجامد، بكونها عناصر استثمار بدونها لا تحدث الرؤية والتأمل،
بالإضافة إلى الفضاء العلوي، والأرضي السفلي، بكونهما مساعدات تكوين الفكرة الإبداعية، فمن يرَها ويتأمل بها يدخل مرحلة الإبداع، وإنَّ توفر صفات خاصة في الشخصية، وامتلاك هذه الشخصية لفطرية الإبداع؛ المحمولة منذ النشأة الأولى، وَتَدَخّل بعض العوامل الوراثية أحياناً وليس بالضرورة الرئيسية، ومن ثم التخصُّصية العلمية الحصرية؛ تؤدي بالتعمق لتطوير الفكرة والموهبة، فبدون أساس لا يوجد معنى ولا بناء .
ومن أشكال الشخصية الإبداعية: الاستقلالية، والمغامرة الممتلئة بالمخاطر، وحبّ الاستطلاع، والتجريب، والانطواء من خلال حبِّ العمل المنفرد، والطاقة العالية المخزّنة في العقل والروح، إن صاحب هذه الشخصية لا يعرف الخوف، ولديه دقة في التعرّف على منجزات الآخرين، ويدخل في الأحداث، ويكتشف بسرعة الفنَّ والجمال، وتكون له ملاحظات مستمرة على أيِّ بناء، رغم عدم امتلاكه للمعرفة الكاملة في تلك الأشياء؛ لكن حدسه وبصره وبصيرته وموهبته؛ تشعره أن هناك نقصاً ما أو خللاً في تركيبة تلك الأشياء، كما أن هذه الشخصية تمتلك دائماً الخيال الخصب الواسع، والتحليل والتركيب والتقييم وبُعد النظر.
إننا في هذه الأمة بأمسِّ الحاجة للإبداع والمبدعين، ونحن أمة قادرة على ذلك، ولدينا كل المقومات، نحتاج للإخلاص فقط ، ولا يكون الخلاص إلا بالإخلاص، وعلينا أن نسرع الخطا لمواكبة العصر، وكفانا انتظاراً، ونقلاً، وترجمة، واستقبالاً لأفكار الآخرين دون تحليلها أو مناقشتها، فأين هو نتاجنا الفكري الذي يؤدي لنتاجنا العملي، وهل سنعيش على التجريب دون نتائج، وهل سنبقى نسلّط الأضواء على الإبداع الوهمي، وإبراز الصور غير الحقيقية؟،
والتي سرعان ما يكتشفها الزمن، إنها تجارب واهية لتكون الخسائر باهظة، فالحقائق لا تحتاج للأضواء؛ إنما تظهر نفسها بالتداول ويبحث الضوء عنها، يلاحقها إلى أن يصل إليها، كفانا استهلاكاً لا نريد أن نكون مستهلكين؛ بل نريد أن نكون صانعين ومنتجين للعلم أولاً لنتحول إلى مبدعين .
لا ضير إن استقبلنا أفكاراً، لكن الضَّير في أن نأخذها كما هي، فتحوّلنا لتابعين، أما إن ناقشناها، وحللناها وولّدنا منها أفكاراً جديدة بذلك نتحوّل إلى إبداعيين، ولا يكفي أن يكون الماضي هو المخزون؛ بل يجب أن يتحول إلى خزّان يستفاد منه في الحاضر كي يضيف إليه ما نقص كلّما احتجنا منه، والحاضر يجب أن يكون إنجابياً لنستفيد منه اليوم والغد، وإذا ما وصل إلى بعد الغد يستفيد منه القادمون بعدنا فيرونه إبداعاً .
بقلم د. نبيل طعمة

شاهد أيضاً

استيراد الحلول

تحتاجها الأزمات، ليس فقط الطارئة والمفتعلة وإنما المبرمجة كأهداف استراتيجية مغناطيسياً؛ لكن جميعها مرصدة، وجاهزة …