حوارية

حميمية نوعية، جرت في إحدى أمسيات الأيام الأولى من رمضان الذي يمر بنا في هذا العام، وبعد الإفطار بين أبي؛ الذي اقترب من الثمانين عمراً، وأمي التي تجاوزت السبعين ببضع سنين، شهدتُ عليها، حيث كانا قد أنهيا صلواتهما.. الفرض والسنّة البعدية والتراويح، والأدعية لأبنائهم وأصهارهم والكنائن والأحفاد وأحفاد الأحفاد، بأن يجعل اللهُ الجنة مثواهم، وأن يديم الله النِّعم على البلد والأمة،

وإني لأعتقد جازماً موقناً بأن جميع الآباء والأمهات يفعلون ذلك؛ أياً كان مشربهم الديني، أو مذهبهم، أو طوائفهم، أو نوع صيامهم، مذّاك التاريخ البعيد الموغل في القدم وحتى اللحظة.

الكل يمتلك صور الخوف المتعددة، والتي تحمل في جوهرها الحبّ والعواطف بدراية أو بدونها- الظاهرة أو المخفية-؛ولكن جميع الآباء يمتلكونه في دواخلهم منذ السنين المبكرة من مراحل بنائهم، وتكوينهم، ونتاج تسارع الحياة، حيث لا يتم الانتباه إلى جوهرها، بكونها تأخذهم ضمن عزم العجالة، والاهتمام ببناء الحماية لأبنائهم،

أي: محاولات ناجحة وفاشلة، يسعون فيها لتأمين الحياة الكريمة؛ التي قد تترافق بالأدعية المحببة من الزوجة للزوج المتحولين إلى أب وأم لبعضهما ولأبنائهما، واللذين قد تعترضهما كامل المصاعب الحياتية؛ التي تسكنها ظروف الأحوال اليومية وتبدلاتها، لكنها تتجلى في لحظات التوافق والهدوء أثناء الذهاب والإياب إلى العمل، والدراسة، والبحث عن زوجة أو زوج للابن أو الابنة، مثل ( الله يوفقك ويرضى عليك) و ( الله يحميك ويكللك بالرضى) ( الحمد لله على السلامة ) و ( ترجع بالسلامة )، هذه الكلمات التي رافقتنا أثناء مسيرة ظهورنا على الحياة بينهم،

إلى أن وصلا إلى عمر التقاعد والاستقرار؛ الذي به يزداد خوفهم على نتاجهم وعلى أنفسهم، بكون الشعور بالرحيل عن ظهر الحياة أخذ يتسلل رويداً رويداً، وبدأ يُشعرهم بالاستعداد للانتقال للعالم الافتراضي، أي: الآخر الذي به تكمن رؤى الجنة والنار ودرجاتهما،

هنا أعود للحوارية الجميلة التي تتم بينهما يومياً في رمضان بشكل خاص، وغيره من الأيام والأشهر بشكل عام، باعتبارها عادة من عادات أهل بلاد الشام، وإني أعتقد أنها تجري على ألسنة المؤمنين والروحانيين والتجار والصناعيين والمزارعين على وجه البسيطة.

لقد أنجب والداي عشرة من الأبناء.. بنين وبنات، بكونهما من جيل بدايات القرن الماضي؛ الذي آمن بضرورة التكاثر- على العكس تماماً من أجيال القرن الواحد والعشرين؛ التي انتبهت إلى المعادلة العلمية والتربوية والاقتصادية، ويخافان حتى اللحظة من جهنّم ونارها وينشدان بصلواتهما الجنة، هذا ما يفعلانه يومياً، وأسئلتهما لبعضهما: هل ندخل الجنة؟

هنا تدخلت وشاركتهما الحوار قائلاً: إلى الجنة وبدون جواز مرور، أو رقابة أو تفتيش في ماضيكما، بكونكما جاهدتما الجهاد الأكبر، حيث ينضوي على العمل البنيوي البناء، أي: الصدق والإخلاص في العمل، من أجل الوصول إلى شاطئ الأمان، أي إلى الجنة والابتعاد عن النار.

إن الرؤية الأبوية (معادلة الأب والأم ونتاجها) بفواصلها الفطرية والمعرفية، حاولت دائماً الاجتهاد العملي لتثبيت مكونات اللبنة الأولى للأسرة ونجاحها، رغم أن إحداثيات مجتمعات أواخر القرن العشرين وبدايات القرن الواحد والعشرين الذي نعيشه، قد أسست لانقلابات خطيرة في مفاهيم السلوك الاجتماعي، وأدت إلى إحداث شروخ في تركيبة النسيج البنيوي للأسرة، وغدونا نقف أمام لوحات متباعدة، تنشئ مساحات بين لوحات لا تمتُّ لبقايا تلك الأصالة؛ التي سادت مجتمعاتنا وأسرنا إلى وقت قريب منا، نحن أجيال ما بعد تلك الأجيال، والقادمون منهم، ومن لغتهم المحببة،

علينا أن نعترف أننا بدأنا نفقد الكثير من شخصيتنا الاعتبارية أمام أبنائنا القادمين إلى الحياة: سؤال لماذا ؟.

لأننا فقدنا – ولا أعمم ولكن أقصد مجتمع الكثرة الحديث – السير على خطاهم، وفهم تلك المعادلة التي جمعت بين الجهاد الأكبر والجهاد الأصغر؛ اللذين كانا مدمجين تحت مفهوم البناء والتكوين، والسعي الحثيث  من أجل حماية الأسرة، والأرض، والإنسان،

أي: إظهار الوطن محمياً بالحبِّ؛ الذي تتمتّع به الخلية الأولى، وهي الأسرة التي تعتبر أولاً وأخيراً خطّ الدفاع الأول الراقي والمتين. حوارية شاركتُ فيها متسائلاً في نفسي: إن جيلنا القادم من جيلهم ربما استفاد كثيراً منها،

أما الأجيال الحالية: أبناؤنا وأحفادنا الظاهرون على الحياة بحداثتها كيف نعلّمهم فهم هذه اللغة، لأنها لغة حبِّ وإيمان تجمع الروحي بالمادي اللذين لا يمكن فصلهما، بكونهما يجسدان علاقة التجوال بين العقل والقلب .

د.نبيل طعمة

شاهد أيضاً

استيراد الحلول

تحتاجها الأزمات، ليس فقط الطارئة والمفتعلة وإنما المبرمجة كأهداف استراتيجية مغناطيسياً؛ لكن جميعها مرصدة، وجاهزة …