الله والدين

إنه فوق أن يوصف، وأكبر من أن يعرف، وغاية دخولنا إلى بوابة محيطه الكبير هو الاستزادة لا النقصان، لاكتساب المعرفة والاقتراب من العارفين بنية التخصص المعرفي، الذي تتشكل عبر أشيائه المعرفة بالشيء، لذلك هو فوق كل شيء تقودنا أشياؤه إلى العلم به، والعلم أعلى درجات المعرفة، لذلك كلما تعلمت خشيتَ، والخشية ليست خوفاً؛ بل احتراماً في المعرفة والعلم لذاك الذي يعطينا العلم والمعرفة من إحاطته لنا، فتقشعرُّ أبداننا إذا هفونا خشية وحباً لمجرد حدوث جزئية المعرفة وجزئية العلم، لا خوفاً ولا تكبراً أو تجبراً؛ بل حباً له في سرِّنا وعلانيتنا، إنه حقيقة الحقائق التي يجب أن نجهر بها علماً ومعرفة، لا حدثاً ولا حديثاً.

لفظ جلالة لم يحمله أيّ كان من البشر على وجه البسيطة، وأينما وُجد البشر ومهما كان لونه وشكله ولغته، ومنذ النشأة الأولى وحتى الآن لم يصلنا اسم كمثله، أو استمعنا أو قرأنا أن أحداً ما أطلق عليه كاسم، أو نودي به فهو الاسم المحرّم على الإنسان أينما كان ووجد بالفطرة والعقل والعلم، كما وأنه الاسم الدال على كمال الهيبة والجلال، وهما صفات مبتعدة عن البشر، بكون البشر ” نسبي” وتلك أسماء تامات.

وإن غايتنا من الدعوة للبحث والتعمق به؛ هي أن نتطور من خلال الدخول إلى مفرداته وحروفه، فالمسيرة الإنسانية التي استدلت عليه بعد تكون الوعي الواعي، وتشكل الفكر من المحيط في مبتدئها عرفت (إل) وبعدها تطورت (إل) إلى (إلا) ومن ثم (أللات)، إلى أن وصلت بعد الاكتمال العقلي المتطور إلى أن كل ذلك هو (الله).

وقد كانت أسماء التعريف تدلّ في البداية على المجهول، فأبدعت صوراً وأشكالاً لتستدل من خلالها عليه فمثلاً (أل) أداة تعريف تدخل على أي شيء، لتعطيه شكل المصدر محددة إياه، وإذا أخذنا (له) عرفنا أنها تدلنا على أن كل شيء له ومعه من المبتدأ وإلى الخبر أي: إلى النهاية.

وإذا تمعَّـنا في الماء والهواء والتراب، وجدنا أنها شيء ولا شيء وكل شيء، وهو دائماً وأبداً حاضرٌ نتطلع إليه من اللحظة التي يَرِّف لنا فيها جفن ، وإلى المستقبل من خلال وجودنا المراقب في وجوده، ولحظة الخلق الأولى؛ التي تبدأ من النقطة، والتي تتمثل في النطفة وإلى النهاية، تجد أن الماء هو أحد أركان التكوين، وبدونه لا نحيا ولا يحيا أيُّ شيء، إذاً هو شيء فالماء حياة وفناء، وهو لا شيء (الهواء) ولا تدركه الأبصار ولا يُمْسك ولا يُطال، يدخل عليك ويجول فيك ولا إرادة لك عليه؛ بل إرادته أن تحيا منه وترتاح إليه،

وهو كل شيء، فبدون التراب لا تكون الأجسام والمعادن، ولا تحفظ السوائل ولا تتكون الأبدان والكواكب: (الأرض والشمس والقمر والنجوم والمجرات ولا يكون مكان).

انظر إلى بدنك الذي أنت فيه، مَن فيه؟ وستجده فيه، بكونه له كل شيء فيك، فإذا عدنا إلى (ال) نجد أنه بدونها لا يتعرف على شيء فيه، تتصل لتصل إلى (له) وتعرفنا بأن (الله) له كل شيء، وهو مَلِكُ الغِنى، ولذلك هو الغني الوحيد الذي يملك كل شيء، فيكون في كونية كن الغني المعطي والمانح والغَنِيُ عن التعريف.

إن الأبحاث الفكرية التي أُوْجِدَت من خلال تطور العقل البشري الماديات الخادمة في جملتها للبشرية، وانطلقت من علم الظواهر، وأنجزت الجدليات من أجل رّد الأشياء إلى واقعها، واعتبار وقائع حدوثها حقائق واقعة؛ كانت غايتها نفي عناصر المفاجأة عنها، واعتبار الوقائع الموجودة من خلال حقيقة الواجد تراثاً، والتراث صنعه إنسان، توقفت واصطدمت بجدار تطور الفكر الإنساني، والتي لم تستطع أن تخترق حجبه، ليعود الإنسان ويدحض مادياته ويعتبرها تأملاً وتفكراً وعلماً،

وعملاً عقلياً أنجز مادة أتت من حقيقة الحقائق الروحية، والتي ساهمت في عودتها كخادمة للإنسان بالتطور الفكري، وأثبتت أن الأساس هو اتحاد بين المرئي واللامرئي، موصولاً بين الوجود واللاوجود، والمعروف وغير المعروف، والمعلوم والمجهول، فَدَحَضَ بذلك نظريات الوجود من اللاموجود ولا يمكن أن يكون الموجود بدون واجد، بكونه أي: الإنسان موجداً لوجود المادي وبكل أشكاله كي يخدمه ويطيعه، وأثبت بأنه يتبع إليه تبعية المصنوع للصانع.

ولنعلم أن الله في حساب العدد والرقم (66)، وإذا حللت حروفه تجدها (ألف – لام – لام – ها) وعددها (11)، وانظر إذا حذفت الألف فتجد الألف الأولى فتجد أن كل شيء (لله)، وإذا حذفت اللام الثانية أن كل شيء (له)، وإذا حذفت الألف واللامين تجده (هـُ) وهي هاء الهوية الذاتية، فإذا ضممتها تصبح هو وهي ضمير الغائب الحاضر، وإذا حذفت منه لام واحدة ستجد أن لديك (إله)، وإذا حذفت اللامين فيبقى لديك (آه) وهي الحب، محصورة بين العقل والقلب، واستشعر بأنك إذا ما نطقت بها كم تستمتع وترتاح.

فلنتفكر ونعلم بأنه الخير والحب، وبالحب يحدث الوصل، لذلك مرَّ الإنسان ومنذ آدم مروراً بكافة الرسل والأنبياء ومنهم: (موسى وعيسى ومحمد) عليهم السلام بتطورات كثيرة؛ حتى وصل إلى فهم نوعي في معرفة المكوّن المطلق الخالق الكامل الواحد الكلي (الله).

وإذا تعمقنا في بحثنا لوجدنا أن الأساس واحد، ضُم إلى الواحد فأنجز واحداً كي يستمر الواحد في الواحد، إلى أن وصلنا إلى ما نحن عليه من علاقات منجبه.
ولننظر وندقق في المسيرة الإنسانية وإنجازاتها، فالموسوية شخّصته وتعاملت معه على أنه حالة صراع، وخاطبته عبر إسرائيل، ومعنى (إسر صارع وائيل الله) وتعني تصارع مع الله، وموسى كليمه براء من كل ذلك، والمسيحية بَنَته فأفقدته وحدانيته، والمسيح عليه السلام بشر رُفع وصلب وقام، فكانت الآلام رمز خلاصهم، والإسلام نزّهه ورفعه إلى الدرجات العلا، فكان الخطاب خطاب عقل في الحديث عنه، ولنجد أن الأول كان خلاصه باللقاء والكلام معه؛ عبر حواره مع موسى كليمه، وأن الثاني خلاصه بالآلام عبر مسحه على المستضعفين وإنقاذهم، والثالث الأمين أوجد الخلاص في الإخلاص فرفعه ونزّهه عن كل شيء أي الله،

وبالتدقيق نجد أن العلاقة واحدة، فالله واحد والدين واحد، وكل نبي ورسول أتى وتأمل وتعمق في شؤون البشر، اتصل بكونه واحداً مع الواحد المحيط، فإذا دخل فيه بعد أن دخله في الأساس، أنجز علماً من التفكر في الموجود عمل به غايته إفادة البشرية عبر إنجاز روادع أخلاقية ورسم نهج ومناهج للحياة.

والدين في تعريفه:الجزاء، وهو آت من دَين يعطى لك لتردّه عبر حياتك المعاشة، فإن أحسنت وأجدت كانت لك الذكرى والبقاء فيما تتركه من أثر، وإن لم تحسن كان لك الشقاء في الحياة وبعد الانتقال، وما التعاليم السامية التي سجلت في الكتب المقدسة توراة موسى وإنجيل عيسى وقرآن محمد عليهم السلام، إلا توحيد للأمم وسلام وسلم،

فعندما قال السيد المسيح عليه السلام إني أنا الأول والآخر وأنا الألف والياء وأنا البداية والنهاية، وحمل السلام وأعطاه لحوارييه كي يجوبوا الأرض، دخل على سلام بألفه لتتحول إلى إسلام محمد عليه السلام، ليعيدنا إلى إبراهيم الذي قال وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين،

والحنيف في علم اللغة المستقيم، والمسلم هو من أسلم أمره بالتفكر والعلم والعمل إلى (هو)، يرتقي بين البشر حضوراً وألقاً ومرتبةً بعد حصول التوجه، وامتلاك صفاء النية والإقدام.

وإنّ ما قام به الرسل الأنبياء من تأمّل وتفكر في أحوال البشر، والحيوان، والشجر والحجر، والصفاء تفكراً بمساعدة الوحي الذي ساعد في الفتح والتنوير الفكري، والذي تحول إلى علم أنجز قواعد أخلاقية وُضعت في الكتب المقدسة الإلهية، وأوضحت قصص الحياة، وأنبأت عن الحياة السابقة والحاضرة واللاحقة ورتبت تهذيباً للشكل والروح، وأدت إلى قيام دور للعبادة والفقه والشرع والعقيدة لدى تقسيمات البشر حسب التطور؛ اقتدى بها متبعو الرسل والأنبياء، ورسموا واجبات يجب على كل فرد القيام بها من تلاوات وحركات، وجمع في أيام معدودات الجمعة والسبت والأحد، وكل يتبع لشريعة سُمِّيت دِيناً،

ونحن نقول: إنه دِين واحد وشرائع ثلاث، وهو آت من دَين وله واجبات مفردة يؤديها الإنسان في خلوته، وله أيام جمع تؤدى فيها صلوات أو طقوس، ونسميها جمعة الزمان ولمعة المكان، فكل جمعه أو اجتماع تكون فيه النوايا صادقة وصافية، تحدث اللمعة أي البريق الصافي، ليحدث التجلي النقي، ويحدث للنفوس انشراح وفرح وسعادة بكون الصفاء والنقاء قد حدث، وكذلك يوم السبت ويوم الأحد.

وإن غاية دور العبادة من كنس وكنائس وجوامع وقبلها المعابد، هو أن يتخلى الناس عن كل شيء ويجتمعوا بعيداً عن ممارسات الحياة اليومية والمعيشية، كالبيع والشراء، واللعب واللهو، والتداول والحوارات، والانشغال بمشاغل الحياة ومغرياتها، وفرضت لها فرائض الطهارة (وتعني طهارة الروح قبل طهارة الجسد، فإذا كانت الروح طاهرة فقليل من تراب نظيف أو ماء يطهر الجسد، وأما إذا كانت عكس ذلك فكل بحور الأرض لا تطهرها) فالنظافة والثياب الجميلة وغير المدنسة لا برجس الجنس، ولا من مخارج الإنسان وأوساخه،

كما فرضت طهارة الجسد ونظافة الوجه واليدين والقدمين، للتخلي عن الروائح الكريهة والتعطر والتزين والتحلي بطيب الكلام، ونظافة الفكر واللسان، ففي هذه الدور يتخلى عن كل شيء، ليبدأ التفكر النوراني وإصلاح ذاته، من خلال تلاوة كلمات مقدسة موحاة إلى الرسل والأنبياء من الإله( بعد حصول التأمل الأفقي في الوصل العمودي)، ومحفوظة في كتبه المقدسة، ليحدث الوصل والصفاء،

فترتاح النفس ويرتاح الجسد، عبر حركات يقوم بها، تحمل غايتين التقرب للمطلق الكلي الواحد الخالق الإله، والتخلص من طاقة السالب عبر حركات ميكانيكية مثل: الضم، والرفع لليدين والرأس، والثني للركوع والسجود بملامسة مداخل الطاقة ومخارجها، للتخلص من طاقة السالب، بكون الفضاء الذي فوق الأرض طاقة موجبة، والأرض طاقة سالبة، فيستمد الحي من الفضاء الطاقة الموجبة والشحنات، ويتخلص منها بالسجود على الأرض، ليفرغها ويتخلص من السالب والشوائب التي دخلت عليه بالاحتكاك مع الحياة، والاكتساب عبر الأحوال الحاصلة في مسيرة الصحوة اليومية والمنام.

وإن هذه القواعد والتي أخذت شكل الحكمة عند البعض من الأمم، والفلسفة عند البعض الآخر، واللاهوت والناسوت عند الآخرين، والفقه والشرع عند المسلمين، فإذا اجمعنا على تحليلها نجد أنها جميعها تشترك وتنطلق من مبدأ واحد، ولأجل الاقتراب من الواحد، فالواحد إنسان تسلسلي، والواحد إله محيط وخبير بالإنسان،

فإذا درسنا الوصايا العشر، ومنها: أن لا تقتل ولا تزني ولا تسرق ولا تحلف باسم الله بالباطل ولا تخن، وتحدثت هذه الوصايا عن: الصدق والأمانة والحب والتعاون والعمل الشريف ونصرة المظلوم وإبعاد الظالم والثواب والعقاب؛ لوجدنا أنها جميعها تشترك في مبادئها وتتقاسم الصح، من البوذية والهندوسية الوضعية أو الفلسفية، مروراً بكل الشرائع السماوية: اليهودية والمسيحية والإسلامية، وغايتها بناء الإنسان روحياً، وتهذيبه مادياً، حتى طقوس الحج، البعض يحج لنهر الغانج، وآخرون إلى بوذا، وأولئك إلى بيت المقدس، والإسلام إلى مكة، فما الغاية من كل ذلك؟

ونحن نرى ذلك عند المسلمين وهي آخر شريعة سماوية أتت وانتظمت ونظمت البشرية، ولو تمعنا في آلية الحج عند المسلمين لوجدناها تتألف من طواف وسعي ووقوف في عرفات (جبل في مكة)، وهُيام في منطقة مزدلفة ومِنى بحثاً عن الحصيات، ومن ثم رجم إبليس الشيطان، فما معنى كل هذا، وما معنى هذه الحركات والتنقلات من مكان لآخر؟.

فالطواف الذي يكون على شكل دوران، ويتكون من سبع دورات كاملة حول الكعبة، وتقع في البيت العتيق الذي بناه إبراهيم عليه السلام قبل آلاف السنين؟ التي لم تبلغ التسعة بكون التسعة نهاية، والعشرة صفر وواحد؛ التي تعني العودة إلى البدء واستمر إلى الآن، وتكون بدايته بأن تضع الكعبة إلى يسارك، وتبدأ بالدوران بعكس عقارب الساعة، والغاية من ذلك أن تعود بزمنك إلى بدايته،

وتستذكر عملك الروحي، أي: ما جال في فكرك عبر سنيِّك التي قضيتها، وتتفكر فيما بقى لك، وكيف ستمضيه، وعدد الدورات سبع وهي العمر المتوقع لحياة الإنسان، على اعتبار أن كل سنة بعشرة، بالإضافة لعملية الاحتكاك بزمنك ودفعه إلى الوراء وبذل الجهد، فتتولد طاقة عظيمة، سرعان ما تتحول إلى عمود هائل من كم المجموع الطائف، والحامل لكلِّ النوايا الخيرة، والمرجو منها أن يحصل انفراط الطاقة الهائلة النقية الصافية في العمود المتصاعد، لتصيب كل طائف، فيحدث الغسل الروحي، والكسب المعنوي الكبير، وكل شيء تحتَّك فيه وتحكه يولد حرارة وطاقة،

وغاية أن تفعل الحج ولو مرة هو غاية مراقبة مسيرتك الحياتية، وامتلاك الحجة على نفسك، ومعنى من استطاع إليه سبيلا:أن يكون لديك فائض جمع خير، وتنظر في أحوالها وتحاسبها، فتكون زاداً ومعرفة وخبرة لمسيرة حياتك المتبقية من عمرك المفترض. إذن، الطواف يعني كما يطوف الماء لتسقي جسدك بنور الحقيقة، ولتبعد العناء والأوساخ والسالب وطاقته من نفسك وفكرك، لتعود كما ولدت.

أما السعي وهو أيضاً حركة، وتبدأ من اليسار وتتجه في نهاية الشوط إلى اليسار، لتدور أيضاً عكس عقارب الساعة، ولكن بخطوط مستقيمة، فتدفع بعملك إلى الوراء مفتشاً عمّا شابه من خطأ وخطيئة، وكم كسبت بشكل صحيح وسليم، وما فيه من شبهة واغتصاب ونصب وتلاعب، وكم وزعت منه للفقير والمحتاج واليتيم، وكم ساهمت في حركة بناء أمتك وأرضك، وكم تصدقت منه، فالسعي سعيٌ لتعلم العمل، وأن لا شيء يأتي بلا كدٍ ولا عرق وجهد، فإن لم تتعب فلن تنل وهو أيضاً على سبعة أشواطٍ، غايته أن تراقبه ضمن سنيِّ عمرك، لتعود فتعمل ما بقي من عمرك صالحاً وحسناً وجيداً، فتستقيم لك الحياة.

وإذا ما انتقلنا إلى جبل عرفات، والذي سُّمي بذلك نظراً لتعارف آدم وحواء عليه، والقصد من ذلك في نظرية التكوين أن يحدث التزاوج من أجل استمرار البشرية، هذا اللقاء الذي يعني اتحاد الأول في الثاني، كي يأتي الثالث، وتبدأ مسيرة الحياة من خلال السعي عن الرزق وتأمينه للتكوين، والطواف والتجوال في عالم المدن والبلدان؛ الذي يشكل كوكبنا ونتشكل منه،

وما التخلي عن فاخر الثياب، والتجرد عن كل شيء، والاستعانة بالخفيف إلا لزيادة الإحساس بالآخر، والتواصل والتلاحم معه، ومساواته وبأننا كلنا بشر من جِبِلَّةٍ واحدة، ونبتنا من هذه الأرض، ومشيئة الاتحاد بين الماء والتراب والهواء، ونحن نتطلع على هذه الحال نجد أن المكوث على جبل بعد الصعود إليه يريك الأرض والسماء، والشجر، والبشر والحجر، والماء والكلأ، كما يريك الزاحف، والطائر، والدابة، فيحدث التفكر والبحث في آلية الخليقة والخلق، فتعلم أكثر مما يعلمه الآخر.

وإذا ما انتقلنا إلى مزدلفة ومِنَى لنجمع الحصى، ونطارد الوهم في رحلة رجم الشيطان أو (الإبليس) الموجود في داخلنا، بكوننا عالماً سفلياً وعلوياً والمتمثل في الشهوة والرغبة والتسلط والنقمة؛ لوجدنا أننا نجمع الحصيات السبع، ونكررها لنعاهد ما وقر في قلبنا وصدقّه عقلنا (أي الإيمان بالحق والحقيقة)، ونرفض الوهم الذي أبلس علينا برجم الشيطان الموجود في داخلنا بالحصيات السبع، لنستمد القيمة من أسمائها (القوة – الإيمان – الحق – الحب – الخير – العمل – والأمل)، فإذا فعلنا هذا كان العهد والميثاق للحق الموجود في داخلنا، لينتصر على الباطل ورغبة التخلص من العصيان والطغيان، لنعود من رحلة الحج أنقياء أتقياء، ونبدأ من جديد.

من هذا نجد أن الحج أيضاً عند المسيحية، وزيارة الأماكن المقدسة في بيت المقدس، يحمل أيضاً في طياته روح المعاني، وعند كل الشرائع السماوية والوضعية نجد فكرة الطهارة والتطهر من الذنوب، والأعباء التي تتصارع مع أرواحنا، وتنشأ الهمَّ فينا نحن البشر، فنسرع متى استطعنا إلى غسلها، والعهد على أن نكون أفضل، وأن ننظر إلى الآخر على أنه إنسان مثلنا، فنتبادل معه الحب والخير ليحدث التكوين.

وما الفرائض الموجودة، كالصوم الموجود لدى كل الشرائع السماوية، والوضعية أيضاً؛ إلا غايته الحفاظ على صحة الإنسان، وتعويده على الصبر ولجم الشهوة بكل أنواعها، والتخلص من كل ما هو ضار في داخل الجسد وخارجه، وما الزكاة إلا شعور الإنسان بالإنسان، والتواصل والإحساس، بأن الإنسان الآخر إن كان بحاجة حقيقية لمساعدة وتستطيع فلا تبخل لتزداد خيراً، فتفكر في عظمة الموجود الروحي للوصول إلى الواجد لمجمل عملية التكوين.

وما غاية حوارنا الذي نُساق فيه من أجل فهم تكويننا، والعلاقة الكونية التي تربطنا كجزء مع محيطنا، البادئ من نقطة، والمتحول إلى الواحد، المتكاثر بإرادة الواحد المحيط والمستمر، ليلج الحياة في التسعة ويعود إلى بدأ وأبدأ وبدء للحياة، كي يحصل التطور من خلال فهم الضوابط الدقيقة، والموضوعة بمسؤولية لا تسمح بالخلل أو التخلخل، فإذا ما اختل هذا التكوين اختل كل شيء، ونعود إلى بدء وحياة نبحث فيها من جديد عن وجودنا عبر الموجود إلى أن نصل إلى الواجد (الله)، ولن نصل، فلنتفكر في موجوده كي نعرف قليلاً من وجوده.

ولنعلم أنه أوجدنا بغاية الحب، وخلقنا من حب، وعندما نخاف يجب أن نعلم أننا نخاف من ردة فعل الخطيئة التي نرتكبها في داخلنا، وكلما زاد خوفنا نعلم في عقلنا الباطن أننا نحمل الكثير من الخطايا التي ارتكبناها، وهي التي تشكل لنا وسواسنا وشيطاننا، وبكونه أوجدنا من حب يسامحنا إذا قصرنا في اتجاهه، بكونه مطلقاً ونحن النسبي، ولا نسامح لا من قبل بعضنا ولا من قبله عن أخطائنا بحق إنسانيتنا وبعضنا، وفقدنا الضمير الناظم لمسيرة حياتنا الواجب أن نحياها بسبب وجودنا.
المصدر : فلسفة التكوين الفكري الجزء الثاني

 

شاهد أيضاً

استيراد الحلول

تحتاجها الأزمات، ليس فقط الطارئة والمفتعلة وإنما المبرمجة كأهداف استراتيجية مغناطيسياً؛ لكن جميعها مرصدة، وجاهزة …