تأمّل فيها

طبيعية، صعبة أم سهلة أم قاهرة، واصطناعية نتاج ما نفعله، ونرتكبها بالإرادة العلمية أو اللاإرادة المغيَّبة بفعل الجهل بالأشياء، وفي كلتا الحالتين جميعنا معرّضون لها لا محالة، ومارون منها ضمن طبيعة السياق التاريخي لحركة الإنسان،
وإني لأسأل: هل أحد من الإنسان لم يمرّ بها؟ أشكالها متعددة، وجمعها المصائب، وجميع ما في الكون ينمو من حبة تبدأ صغيرة؛ إلاّ هي تبدأ كبيرة في العقل تشاغله، وتسرِّع من نبض القلب، وتغيِّر ألوان الوجه، تلعثمُ الكلمات الخارجة من بين الشفاه، وتضطرب الحركات، بعكس جميع الموجود المحيط،حيث لا يعبأ لها، تمرُّ به مروراً قسرياً لمرة واحده تكون بها النهاية،

أما الإنسان الذي يكبر ويظهر على الحياة؛ حيث ترتمي عليه من المظهر إلى الجوهر والعكس ينطبق عليها أيضاً، تعمل عملها فتبدو أكبر من الزمان، والمكان، والإنسان، والجماد، والحيوان، والنبات، يتملكها الإنسان بكونها تخصّه فقط، فهو العاقل، وبعقله يتفكر، وبقلبه يحزن، وعينه تدمع على ماذا؟ على الفقيد من المادي واللامادي، والغالي النفيس والرخيص المقيت، فمن أين نبدأ، ومن أجل ماذا، وعلى ماذا نحزن؟، طالما أننا نمتلك الروح والريحان والطيب والنفائس المحيطة، أي: موجودات الحياة.

وإن كان حديثنا عن المصائب المادية؛ فإنني أسرد بعضها عسانا نُصيب فهمها الظاهر من كل ما يسيئك ويتعرّض لك سلباً، وتتعرض له ضمن مسارك المسالم والطبيعي، فهل تعيش جسداً بلا روح، وكم مرة أضعت طريق حياتك، وماذا يعني فقدك للأمل والحب والطموح؟،

وأيضاً أن تكون أجوفَ ولا تشعر بذاك الفراغ الداخلي، أو تائهاً ولا تجد من يرشدك إلى طريق الصواب، أو مصراً على عدم امتلاك العلم؟، وبقاؤك ضمن دائرة الجهالة، أو أن تكون قادراً على إسعاد الآخرين ولا تفعل، أو أن تكون متمتّعاً بالصدق وتستبدله بالكذب، أو أن تغش مستلزمات عيشك، وفي استطاعتك أن لا تفعل، أو أن تستطيل أمام الآخرين الذين يعرفون حجمك الطبيعي .

يبدأ عنواننا الكبير والعظيم والمهمّ والأهمّ، بكونه يتربع على عرش ممتلكات الإنسان العقلي المدرك، والفطري اللامدرك تحت مسمّى الأنا الكبيرة، ورويداً رويداً تصغر وتصغر إلى أن تتلاشى، وتدخل ضمن دائرة نعمة النسيان، فماذا أقصد من هذه المقدمة؟ المصيبة كبيرة ووقوعها في لحظتها أمر جلل، فكيف بها تصغر وقيامتها واقعة ضمن مثلث العقل والقلب والروح، والصراع محورها؛ لا بل مركزها ونقطة انطلاقتها، وفي ذات الوقت فناؤها.

أيها الجمع، بما أنك تمتلك اللمع قدِّر ما هو مقدر وكائن، فإذا عرفت ما يكون ففهم قصد كائنك الذي أراد لك أن تكون، فكن نعمة الواجد كي يكون الوجود، ولكن الموجود زائل ضمن فلسفة الرحيل، وكلُّ ذلك ليستمرَّ الوجود ضمن علاقة ظهور الواجد في الموجود، إلى أين أسير؟ أضيء شمعة معرفة الطريق، بغاية رؤية أطراف مسير وحواري الحواريين المنبثقين من أشعة التداخل بين الشمعة والظلمة، بإرادة  رؤية الجوهر الذي يسكنه.

وإنني لأخالف ذلك القائل: “أبصرت قدامي طريقاً فمشيت وأنا لا أريد أن أسير إلى المجهول”، ولكن الإيمان به لا خوف منه بكون الإنسان عدوَّ ما يجهل إنما إرادة الإيمان بالمعرفة والاستكشاف والمغامرة . فالمادي عدوُّ اللامادي أي عدو ما يجهل، وحينما تسير إلى الأمام امتلكْ غاية المعرفة والإيمان بها والنوايا الحسنة، وثقْ أنك واصل إلى ما تروم وتحلم لا محالة، بعد أن تأخذ بالحكمة القائلة: ” إن كنت تدري فتلك مصيبة، وإن كنت لا تدري فالمصيبة أعظم”، هذه الحكمة تنفي المثل العامي ( كبّرها بتكبر وصغّرها بتصغر ) فهو مثل المواساة وتثبيت أفعال الإساءة والجهل.

كم تغدو الفرحة كبيرة في اللاوعي حينما تصغر المصيبة، وكم هي مفجعة وقاسية حينما تبدأ صغيرة كحبة الثلج، وتنمو متدحرجة إلى أن تصبح كرة كبيرة تهدم الإنسان والبنيان؟!.

هل يمكن للمصيبة أن تلد فجأة؟ نعم، فإذا تغلغلت بالصدفة ولم تمتلك مقوّمات السيطرة عليها وانفلتت فتلك الطامة الكبرى؛ التي تجسِّد جوهر المصيبة، وهنا نتوقف لنعترف بأنها أكبر المصائب، ولا يمكن مهما حاولت – ميِّزةُ النسيان بنعمتها – أن تتناساها فلن يحدث وتنساها، لنتخيل نحن العرب أن ليس لدينا عدوّ على الدوام، أي مذّاك التاريخ بعيد النشأة وإلى الآن، ألم تكن هناك مصائب مستمرة؟، ولكن تبقى المصيبة الكبرى في عدم إتقاننا لأعمالنا المادية والروحية وإني آمل وأدعو الكلّي الأزلي المحيط أن لا تمرّ بكائن من كان .
د.نبيل طعمة

شاهد أيضاً

استيراد الحلول

تحتاجها الأزمات، ليس فقط الطارئة والمفتعلة وإنما المبرمجة كأهداف استراتيجية مغناطيسياً؛ لكن جميعها مرصدة، وجاهزة …