روايةً بعد أخرى، وكتاباً بعد آخر؛ يُترجمه إلى العربية، جعفر العلوني عن الإسبانية، يُثبت كفاءةً لافتة في فهم حساسية اللغتين، ليُقدم نصه المترجم بكل هذه السلاسة المحافظة على جماليات المجاز من مخيال اللغتين، ومن ثم ليحجز مكانته في الصف الأول بين المترجمين السوريين بشكلٍ عام، ومن ثم أيضاً ليكون لا يقلُّ جدارة عن كبار ترجموا عن اللغة الإسبانية بشكلٍ عام، الأمر الذي يجعلك تقرأ ما يُترجمه هذا الكاتب وأنت مطمئن البال، ومرتاح للذائقة الكاملة.
وهذا ما تؤكده رواية «الضباب» أحدث ترجماته في هذا المجال والصادرة عن الهيئة العامة للكتاب – وزارة الثقافة، وكما سبق أن أكدته مختلف الترجمات التي قدمها إلى اليوم، وقد وصل عددها خلال زمنٍ قياسي إلى سبعة كتب.
ورواية الضباب التي كتبها الإسباني ميغيل دي أونامونو سنة ١٩١٤م من القرن العشرين، تقوم على أسلوب وأفكار سيُرددها، ويُعيد إنتاجها عشرات الكتّاب، والأفلام السينمائية في مختلف شرق العالم وغربه بتنويعات كثيرة لكنها المتأثرة والمتعلقة بأذيال رواية الضباب، السباقة إلى تماهي كاتب الرواية مع شخصيات الرواية، أو يصير الروائي نفسه، وليس الراوي أو السارد إحدى شخصيات الرواية، بحيث تذوب الحدود بين المتخيّل والواقع، حتى يسود الشك والحيرة أيهما حقيقة أكثر ما يجري في هذا الواقع، أم إن الحقيقة تكمن في هذا المجاز، أو ما يجري في المجاز على مدى بياض الرواية، هذا هو «الصراع» الذي تدور أحداثه بين ميغيل دي أونامونو كاتب الرواية، وبين أهم شخصية من شخصيات رواية الضباب «أغوستو»، لينتهي القارئ منها وهو أمام التباس وحيرة مَنْ خلق مَنْ ؟! ميغيل دي أونامونو خلق أغوستو، أم إن أغوستو كان ذريعة لوجود ميغيل، صراع يصل في حدته إلى القتل، أو محاولة قتل كل «كائن» للآخر؟!.
ذلك هو «الضباب» الذي يفعمُ الكاتب دروب الرواية وزواريبها على فصول تلتقي خلالها شخصيات كثيرة، لكنها دائماً تضيعُ في الضباب، ومن ثم سيكون من مهمة كل شخصية أن تذيب الكثير من ضبابها لتتجلى أكثر، ولترى دروبها بشكلٍ أوضح ما استطاعت إلى ذلك سبيلا.
هذا الضباب الذي سينسحب إلى أكثر من مستوى، لعلّ أبرزها مستويان: واقعي، وهو هنا في حيزه الأضيق، وهناك الضباب في مستواه المجازي الأوسع، أو الضباب المتراكم على البصر والبصيرة، ومن ثم كانت محاولة إزالة الضباب من منعطفات النفس التي تبدو واسعة وسع هذا الواقع، إزالة الضباب وتحويله قطرات، أو ربما بياض ثلج؛ لتكون الرؤية على أوسع مدى، ومن ثم هي دعوة لاكتشاف النفس وإزالة الحجب الكثيفة، لتنجلي عن العيون وترى النفس ما حولها وتعيه.
رواية الضباب؛ هي من الروايات الفلسفية المفعمة بالجدل والقضايا الفكرية، برغم ذلك تُسرد بطريقة أقرب إلى التهكم، رواية ترتدي معطفاً واسعاً من معاطف صاحب أول روايةً في العالم- كما عدّها معظم نقاد الكون- وأقصد بذلك الإسباني الأقدم «ميغيل دي ثربانتس» في الرواية ذات الصيت الذائع «دون كيخوته دي لامنشا» بذلك الأسلوب الساخر الذي يؤكد «أخذ الحكمة من أفواه المجانين»، وهنا نُشير إلى أنه سبق لجعفر العلوني أن قام بترجمة هذه الرواية -دون كيخوته دي لامنشا- بأسلوب سهل موجه لليافعين ضمن منشورات الطفل في الهيئة العامة للكتاب.
تطرح الرواية مشكلة وعي الإنسان لوجوده، ذلك الوعي الذي لن يتوفر له سوى بالألم، فالمخلوق الورقي أغوستو بيرث؛ لن يعي وجوده الشكلي – وهو شخصية نبيلة بمعنى من طبقة النبلاء -إلا بعد ضربٍ موجع من الخيانة التي تُكيلها له معشوقته التي استبسل- وعلى طريقة الفرسان النبلاء أيضاً – بالتضحية في سبيلها، ذلك هو الساذج أغوستو الذي يعيش في الحلم، ولديه هدف وحيد في هذه الحياة في أن يحتل قلب إيوخينيا، أو تسيطر هي عليه، وهو الأمر عينه في الحب، حيث الانتصار نفسه هو الخسارة، من ثم كان عليه أن يقوم بـ «بطولات» كثيرة ليعرف سر تلك الخيانة المرعبة، وفي طريق بحثه عن ذلك يصل عن «خالقه» كاتب الرواية نفسه، الذي هو الآخر يعي ذاته بعد مواجهة حارة مع مخلوقه؛ يقرر كل منهما أن يُنهي حياة الآخر منطلقاً من فكرة أن دون كيخوته نفسه؛ هو أكثر حقيقة وواقعية من كاتبه ثربانتس.
هذا الضباب الذي يلف نفوس الجميع لدرجة لا تعرف ذواتها، إلا بتذويب بعض هذا الضباب، وليس ثمة وسيلة لذلك سوى بالحب الذي بفضله يشعر المرء من خلاله بأنه يُلامس روحه، وهذه الروح ما هي إلا حب، ما هي إلا ألم مُجسد، تأتي الأيام وتذهب، ويبقى الحب، وفي عمق الأشياء يتلامس مجرى هذا العالم مع مجرى العالم الآخر المُعاكس له، ومن هذا التلامس والاحتكاك تأتي أكثر الآلام تعاسةً وحزناً، وجمالاً، يلفه ضباب الحياة الذي يرشح إلى مللٍ جميل، وإلى سراب مرٍّ وحلو، حتى لتغدو المحادثات الجميلة التي نخوضها لتمضية الوقت، وكل الأفعال اليومية التي نقوم بها، هي فقط لإطالة الحياة بشكلها الأجمل، هذه الحياة التي هي ليست أكثر من أحداث صغيرة مغطاة بالضباب تلف أرواحنا، ذلك هو المقدس الذي هو جوهر الضباب اليومي.
علي الراعي
تشرين