صدر عن الهيئة العامة السورية للكتاب، في الجزء الأول من سلسلة ثمرات العقول، المؤلف (المختار من تراث الجاحظ وأبي حيان التوحيدي) لكاتبه د. محمود أحمد السيد بواقع مئة وخمسسين صفحة وبمحتوى أربع حلقات لمختارات من تراث الجاحظ وأبي حيان التوحيدي ضمن سلسلة لخدمة الناشئة حتى يتعرفوا بعضاً مما خلفه لنا الآباء والأجداد من فِكَر بناءة في ميادين المعرفة، متابعاً في أهمية اللغة العربية وضرورة القراءة: إن البرامج التي تنقلها هذه الأجهزة فيه الغث والسمين، ومن الملاحظ أن اللغة في هذه البرامج ليست هي اللغة العربية الفصحى في الأعم الأغلب، وإنما هي لغة فيسبوكية وهجين لغوي يتمثل في الكتابة بالأحرف اللاتينية واستخدام العامية ووضع أرقام بديل بعض الأحرف العربية واستشراء ظاهرة العربيزي والفرانكوآراب.
وتبقى لقراءة الكتب المصوغة بالعربية الفصيحة أهميتها في الحفاظ على العربية والتمكين لها. ومن الحلقات الأربع نقف -على سبيل الذكر- عند كتاب الحيوان للجاحظ وكتاب البصائر والذخائر لأبي حيان التوحيدي.
من كتب الجاحظ
ألّف الجاحظ كتباً كثيرة في مختلف ميادين المعرفة، إذ إن ثقافته الموسوعية انعكست في مؤلفاته كافة، وقد قال المسعودي (ولا يعلم أحد من الرواة وأهل العلم أكثر كتباً منه)، وسرد ابن النديم كتبه وهي مئة ونيف وسبعون كتاباً، وأثبت ياقوت الحموي في معجم الأدباء مئة وثمانية وعشرين مصنفا منها، ويتابع هنا د. السيّد: «لم يكن همّ الجاحظ في مؤلفاته الجمع بين الرواية والحفظ والجمع، وإنما كان يبتكر ويُطرف ويخلق للناس بديعاً ويجمع بين الدعاية والهزل ويشيع الفكاهة في أثناء الكلام، فجمع بذلك قلوب القارئين إليه، واستولى منهم بذلك على شتى ميولهم إلى ما يكتب».
في كتاب الحيوان
لابد من الإشارة إلى أن كتاب الحيوان لم يكن الجاحظ الأول في هذا المجال، إن هناك كتباً كثيرة في علم الحيوان، وقد سبقنا اليونانيون بالتأليف بهذا العلم فهناك كتاب الحيوان لديمقراطيس، وآخر لأرسطوطاليس، وهذا الكتاب نقله ابن بطريق إلى العربية، وكذلك لأرسطو كتاب في نعت الحيوان غير الناطق، وفي العربية سبق الجاحظ مجموعة من العلماء أمثال: أبي حاتم، السجستاني، الأصمعي، أبي عبيدة، والباهلي وغيرهم، لكن الجاحظ يختلف عنهم في التأليف في هذا الميدان وبحسب عبد السلام ومحمد هارون (ينطق بين يديك بالقصد العلمي التفصيلي للحيوان، ولكل مملكة من ممالكه، ولكل جنس من أجناسه، وهو فضل للجاحظ على جميع من سبقه أو عاصره ممن كتب في الحيوان، وإن أعوزه بعض الترتيب والتهذيب فهو شأن كل كتابة جديدة، في أمر متشعب الأطراف ممدود النواحي. ولطالما اعتبر الجاحظ أن العرب والأعراب منهم خاصة قد ثقفوا معرفة الحيوان وبرعوا في ذلك واستوعبوا حاله ويتابع د. محمود السيّد هنا «والواقع من يقرأ كتاب الحيوان يلمس الجهد الكبير الذي بذله الجاحظ في إنجاز هذا الكتاب، ولعلنا نقدّر قيمة هذا الجهد الكبير إذا عرفنا أن الجاحظ كتب الحيوان بعد أن تقدمت به السن وأصيب بالفالج، وهو القائل: (إن من جانبي الأيسر مفلوج، فلو قُرض بالمقاريض ما علمت به، ومن جانبي الأيمن منقرس فلو مرّ به الذباب لأَلمت)».
ويضيف في مكان آخر«الكتاب يعد ديواناً جمع الجاحظ فيه الصفوة المختارة من حر الشعر العربي ونادره، كما جمع قدرا من الأمثال ومجموعة من الأحاديث في البيان ونقد الكلام والشعر». ولفت مؤلفنا بأن الجاحظ في أسلوبه كان واقعياً حيث كان يورد الكلام كما ورد على لسان صاحبه وهذا ما يلاحظ في نوادر المجون تدل على غلبة هذا الجانب على كثير من متأدبي عصر الجاحظ التي لم يكن فيها حرج حينئذ ولا خشية.
وبالطبع يقع الكتاب في سبعة أجزاء، ذكر ذلك الجاحظ نفسه إذ يقول في الجزء السابع: «قد كتبنا من كتاب الحيوان ستة أجزاء، وهذا الكتاب السابع هو الذي ذكرنا فيه الفيل»، وحتى قال ياقوت الحموي في معجم الأدباء: «كتاب الحيوان وهو سبعة أجزاء».
أبو حيان التوحيدي
ولد أبو حيان التوحيدي سنة 310 هـ في مكان مجهول في العراق أو فارس، وهو لم يكن في حياته محظوظاً بل نموذج حي للأديب البائس وقد ترك ستة وعشرين أثراً، وإذا كان الجاحظ قد ألّف كتاب الحيوان في آخر حياته، فأبو حيان ألف كتاب (البصائر والذخائر) في أول حياته الأدبية، حيث تأثر بأسلوب الجاحظ الواقعي، فهو ينسب الأقوال لأصحابها ويصور الظواهر كما رآها ويرد الأمور إلى مصادرها.
البصائر والذخائر
هدف التوحيدي من كتابه هذا هو تهذيبي وأخلاقي مجرد من المنافع الدنيوية فهو يقول: «فصرّف فهمك ونغّم بالك في طرف الحديث وملّح النوادر وشريف اللفظ ولطيف المعنى، فإن لك بذلك مزية عن نظرائك الذين أصبحوا متشاجرين على الدنيا في كسب الدوانيق وأصبحت أنت تلتمس موعظة تنتهي بها نفسك عن غرورها وتطلب فضيلة تتحلى بها بين سكان هالدنيا وتتحول بها إلى دار القرار».
ويختم هنا د. محمود السيّد بأن التوحيدي كان متواضعاً في منهجه وبأن مناهله هي بالمرتبة الأولى: القرآن الكريم وسنة رسول اللـه ورأي العين الجامع للصورة ولاعترافات الجمهور وشهادة الدهور وإقرار النفس… إلخ.