«راجعين» في ست لوحات تدعو للغفران والتسامح لفرقة «مهرة» للفنون الشعبية

لم تثنِ الحرب وأهوالها وشراسة أثقالها وبؤس أحمالها الجمهور السوري عن ارتياد مسرحه، إذ بقي المسرح طوال هذه السنين الثماني مقصد آلامه وملجأ همومه ووسادة راحته، وعلى الرغم من «التحفظات» التي تحيط بفن الرقص الشعبي عموماً، فإنها تتكسر أمام هذا الجمهور المترفع أبداً عن هذه الترهات، والذي كان منذ زمن «أبي الخليل القباني» وفياً لهذا المسرح ومعتقداً بخشبته وداعماً لصناعه، وها هو ذا اليوم يملأ مدرجات مسرح الحمراء عن آخرها لحضور «راجعين» العرض المسرحي الراقص الذي تقدمه فرقة «مهرة» للفنون الشعبية برعاية من مديرية المسارح والموسيقا، مثبتاً لمن «يحرمون الغناء» أن سورية مهد النوتة الأولى لا تستطيع إلا أن تغني، ولا يمكنها إلا أن ترقص، وتقرض الشعر، وتمارس المسرح، وتقع في العشق، ودمشق هذه المدينة اللغز، ستظل تنقل «حمّى» الحب إلى أهليها وبنيها، ليسري في عروقهم كما بردى في عروقها، ويضخ إلى العالم المحبة والتسامح، رسالةً حاول صناع عرض «راجعين» إيصالها بكل ما أوتوا من شغف، «تعالوا بنا نمد يد الصلح إلى من أدار ظهره لنا، وحتى إلى من غدر بنا، ورفع السلاح في وجه ابتسامتنا، وقابل ودنا بالجحود، تعالوا نعود أشقاء لإخواننا، ونعيد أواصر الإيمان والثقة، وننسى كل الذي جرى».
ست لوحات راقصة تغنت بخمسة إخوة عرب وسورية سادسهم، انقسموا بين من تجرع سموم الإعلام الممول حتى الثمالة، ومن اتبع قلبه ومعرفته العتيقة بحقيقة الشعب السوريّ، البعيد كل البعد عن الفكر الظلامي لجبهات العار والخزيّ، انقسمت الشعوب، وقرر حكامها أن يماشوا الموجة العامة، ليعودوا بعد ثماني سنين وهم ينشدون النسيان السوري، و«راجعين» يريد أن يحثنا على مد يد المحبة إليهم.. فهل وصلت الرسالة؟
بديكور لا هوية له ولا أثر يذكر إلا اللهم من شاشات عرض كبيرة، وإضاءة ملونة لم تغن ولم تسمن من سينوغرافيا إلا فيما ندر، وصوت أخطأ حيناً وأصاب أغلب الأحيان، قدمت لنا فرقة «مهرة» ساعة من المتعة النقية الخالصة، عبر ست لوحات تخللتها «سكيتشات» قصيرة، مازجاً –أي العرض- بين الإلقاء الشعري والغناء والرقص والتمثيل بمشاركة تماضر غانم وعلا السعيد، وبتدريب وإشراف وتصميم الفنان ماهر حمامة.
بدأ العرض بتقديم مقطع مجزّأ من مسرحية «كاسك يا وطن» للأديب السوري محمد الماغوط والفنان القدير «دريد لحام» عُرِضَ على وحيدة الديكور المسرحي، وهنا أخفق الصوت إذ جاء سيئاً وغير واضح ولم يعطِ الأثر المطلوب من المشهد.
كما قدم العرض حواراً ثمثيلياً بين غانم والسعيد، تأرجح بين الاعتزاز بسورية الحضارة والمحبة وبعض المحاولات الكوميدية الخفيفة غير الموفقة، ودعوات واضحة وصريحة لمسامحة إخواننا العرب والتماس الأعذار لهم، في محاولات لتقديم الفقرة التالية وهي قصيدة لشاعر من البلد العربي المقصود بصوت الملقي «أحمد العلي» وعلى ألحان «إيهاب مرادني»، القصيدة تغنى فيها الشاعر العربي بحبه لسورية واعتزازه بها، لتليها اللوحة الراقصة على ثلاثة مقاطع مختلفة لأغانٍ من تراث الدول العربية بتعديل لطيف من «محمد الهباش».
اللوحة الأولى قدمت قصيدة للشاعر حمد العطيلي من الخليج العربي ويقول فيها: «بردى إليك من الخليج تحيةٌ.. فكلاكما للعرب تنتميانِ.. بردى حنانك أنت أول صاحب.. ملأ الكؤوس محبة وسقاني.. وترددت أصداؤها في دمي والهامة الخضراء وبلودانِ» لتليها لوحة راقصة على أغنية «قاصد جداكم حافي» تجلت فيها الرقصة الخليجية بأجمل حركاتها، وأبدع الراقصون بزيهم الخليجي التقليدي في أدائها شباناً وشابات.
اللوحة الثانية كانت من الحبيبة فلسطين، مع قصيدة في الشام للشاعر محمود درويش: «وَفِي الشَّامِ شَامٌ لِكُلِّ زَمَانٍ. ظَلَمْتُكَ حِينَ ظَلَمْتَ نُزُوحِي.. وَمَا أَجْمَلَ, الشَّامَ, مَا أَجْمَلَ الشَّامَ، لَوْلاَ جُرُوحِي.. فَضَعْ نِصْفَ قَلْبِكَ فِي نِصْفِ قَلْبِي، يَا صَاحِبِي.. لِنَصْنَعَ قَلْباً صَحِيحاً فَسِيحاً لَهَا, لِي، وَلَكْ.. فَفِي الشَّام شَامٌ، إِذَا شِئْتَ، فِي الشَّامِ مرْآةُ رُوحِي» لتليها فقرة راقصة من التراث الفلسطيني على الأهازيج والأغاني الفلسطينية التراثية القريبة من تراثنا السوري والتي قدمتها عناصر الفرقة بأداء عالٍ ومتقن وخالٍ من الأخطاء.
كما كان لـ«مصر الوَحدة» حصة طيبة للهجةٍ محببة بدأت بقصيدة «قم ناجِ جلّق» لأمير الشعراء أحمد شوقي يقول فيها: «قم ناج جِلَّق، وانْشُدْ رسمَ مَن بانوا.. مَشَتْ على الرَّسم أّحداثٌ وأَزمان.. لولا دِمَشْقُ لما كانت طُلَيْطِلةٌ.. ولا زَهَتْ ببني العبَّاس بَغدان.. يا فتيةَ الشام ، شُكراً لا انقضاءَ له.. لو أَن إِحسانَكم يَجزيه شُكران» لتقدم الفرقة بعدها لوحة فنية مصرية شعبية جميلة على بساطتها، أدّاها الراقصون باحتراف في زيهم الصعيدي المحبّب على أنغام أغنية «بتغني لمين يا حمام» تلتها رقصة الدراويش «المولويّة المصريّة» بإبداع لافت لشابين من الفرقة دارا في تنانيرهما المضيئة مالئين المسرح بهجة وفرحاً جعلت الجمهور يتفاعل معها بطريقة عفوية عبر التمايل والتصفيق، لينتقل العرض بعد ذلك إلى المغرب العربي وقصيدة لـ«أبو الحسن بن خروف القرطبي» يقول فيها: «تمتع من دمشق ومن هواها.. فإن هواءها للنفس قوتُ.. إذا هي لم تَفُتكَ ولم تفتها.. فلا تحزن على شيء يفوتُ.. فيا أحباءها الكرماء عيشوا.. ويا أعداءها اللؤماء موتوا» وقدم الراقصون لوحة مغربية على أنغام أغنية «يا بنت المعاون» و«يا زيتونة» معرّفين الجمهور بتراث بعيد إلى حدّ ما عن تراثنا، وموائمين بين «الشامي والمغربي».
الجولة الفنيّة الرابعة كانت من نصيب لبنان الجار والشقيق، وقصيدة للشاعر «سعيد عقل» كان غازل فيها الشام وغنتها له فيروز، وتقول كلماتها: «قرأت مجدكِ في قلبي وفي الكتب.. شآم ما المجد؟ أنتِ المجدُ لم يغبِ «ليعتلي راقصو «المهرة» خشبة الحمراء مجدداً ويقدمون لنا في زي لبناني فاتن، دبكةً أرزيّة تراثية على أنغام أغنية «نزلت تتنقل» و«يا هويدا لك» و«يا حجر صنين» وقد عدّل محمد الهباش في الأغاني المرافقة للرقصات ليمرر بسلاسة وذكاء تحيةً لسورية أو السوريين هنا أو هناك.. وهو ما حصل أيضاً في فقرة العراق الحبيب، والتي بدأت بقصيدة للشاعر العراقي «مهدي الجواهري» تغنى فيها بجلّق الشام: «شممت تربك لا زلفى ولا ملقا.. وسرت قصدك لاخبّاً ولامذقا… وسـرت قصدك لا كالمشتهي بلداً.. لكن كمن يتشهّي وجه من عشقا… قالوا دمشق وبغداد فقلت هما.. فجر على الغدِ، من أمسيهما انبثقا»، وأبهرنا فرسان «المهرة» مجدداً بزي عراقي أصيل ودبكة تراثية على أوتار «لقعدلك ع الدرب قعود» بتدخل لطيف من الهباش.
ولم يغفل صانعو العرض عن تحية شهداء وأبطال وجرحى الجيش العربي السوري الذين ما فتئوا يقدمون أرواحهم وأجسادهم فداءً لتحرير كل شبر من الأرض السورية، تلتها قصيدة نثريّة لشاعر المرأة نزار قباني يقول مطلعها «لا أستطيع أن أكتب عن دمشق دون أن يعرش الياسمين على أصابعي» بإلقاء غني لأحمد العلي، لتختم الفرقة عرضها برقصة شعبية من التراث السوري على دندنات أغنية خاصة بالفرقة «أنتِ يا دمشق مهد الحضارة».
اللافت في العرض إلى جانب إبداع مؤديه على اختلاف الفنون التي قدموها كان تفاعل الجمهور الجميل والعفوي والبريء مع كل رقصة وأغنية وقصيدة وتمثيلية، وكان الختام مسكاً مع مشاركة المخرج ومصمم الرقصات ومشرف الفرقة «ماهر حمامة» لمهرته في أداء رقصتين بلباسه العفوي، ما جعل العرض قريباً من قلوب الجمهور الذي كان في جزء كبير منه من ذوي الاحتياجات الخاصة، المعروف عنهم براءتهم وصفاء قلوبهم، وعفوية مشاعرهم التي ملأت المدرج، لتصل بذلك رسالة حمامة، المحبة والتسامح صفةٌ موروثة لأهل الشام لا يمكننا حذفها من جيناتنا، وعبرها فقط ستعود أواصر المحبة مع إخواننا العرب.. وصلت الرسالة.

شاهد أيضاً

وفاة الباحث والمؤرخ “محمد قجة”

شام تايمز – متابعة نعت وزارة الثقافة الباحث والمؤرخ الدكتور “محمد قجة”، بعد وفاته عن …