يخطو الفنان «أكسم طلاع» في معرضه الأخير في صالة «جورج كامل» خطوة جديدة في تحرير لوحاته من سِمَتِها الحروفية البحت، باتجاه التأكيد على أن الحرف هو عنصر تشكيلي ضمن العمل يمكن تثويره بطرائق مختلفة، فبرغم أنه لا يتحرر من قيود مشقِه الدقيقة، وضوابط قياساته، فإنه بتراكيبه وتجاوراته وتموضعاته المختلفة على مساحة اللوحة، يتخلى عن وجوده اللغوي إن صح التعبير، ساعياً إلى وجود آخر، يُحافظ على جماليات الحرف لكن مع محاولة زَيحِهِ عن الكَلام والإمعان في الشَّكل.
والمتأمل لمسيرة هذا الفنان يتلمَّس قدرته على الانطلاق من الحرف باتجاه عوالم تشكيلية عدة، حيث يُكثِّف فضاء لوحته بتكوينات جمالية من حروفياته بخط الثلث تحديداً، ومنها يخلق توازناته المُرْهِقة في كثير من الأحيان، والتي تشمل سطح العمل ككل، من دون أن يترك لتكويناته ولا لعين المتلقي مجالاً للراحة، لدرجة أن اللوحة عنده تستنزف ذاتها، وكثافة مكوِّناتها تطغى على جمالياتها في حال لو تركت لها بعد الفضاء المفتوح للتأويل، لكن في بعض أعماله الجديدة التي تضمنها معرضه الأخير ثمة تجاوز في عدد من اللوحات لتجريدية الحروف وتعبيرية الألوان باتجاه اختزال الحروف حتى لتكاد تندثر من اللوحة في مقابل قوة في التشكيل والكولاج، وكأن حروفه تحولت إلى مدينة، أو مجموعة عشوائيات بصرية، لكنها موزونة وفق قوانين صارمة، وصحيح أن هذه النقلة تحققت في عدد قليل من اللوحات لكن صيرورة البحث النهائي لـ«طلاع» وبلاغة المنجز النابع من ذاك البحث كانت مبشرة جداً، ولاسيما من خلال تكامل اللوحة تعبيرياً من ناحية التوزيع التكويني واللوني واندغام بعض العناصر كآس الديناري والكلمات المتقاطعة وقطعة الخيش مع بقية عناصر العمل.
في لوحة أخرى يتعزز الطابع الغرافيكي حيث تتجاور المقاطع الحروفية وتتداخل مُشكِّلةً مناخاً بصرياً خاصاً تندغم فيه الألوان الترابية مع الأزرق والبرتقالي، لكن تتخلى هنا اللوحة عن عمقها في مقابل إحساس خاص بالعناصر النافرة، فالاشتغال تم على طبقات متراكمة، وبتناقضات لونية عززت مناخات القريب والبعيد، إضافة إلى شفافيات الأبيض وتمشيحات البني والأسود التي أتاحت، مع حصر بعض العناصر ضمن مربعات، إبراز اللوحة كتركيبات متداخلة وكأنها مجموعة لوحات صغيرة تراصفت فوق بعضها بإيقاعية تشي بتكثُّف الزَّمن في العمل الواحد، وأسلوبية إنجازه.
أما في بقية الأعمال فيحافظ «طلاع» على حروفيته السابقة التي يصنع منها أكوانه الخاصة، ولاسيما تلك اللوحة الأشبه بشجرة الحروف التي تنمو من جذرها وحتى سماءات خط الثلث وغيومه، حيث تتحول بعض حروفه إلى غُصن وأخرى إلى غيمة وثالثة إلى سماء، وعلى الرغم من إعصار الحروف فإن ثمة فضاءات خاصة وبرازخ مُوشَّاة بحيوية الواو، وانثناءات العين، واستقامة الألف، ودفء الميم.
يعمل الفنان «أكسم» على تنويعة أخرى في لوحاته، لها علاقة بتقطيع العمل الواحد إلى وحدات تشكيلية عبر خطوط متوازية حيناً ومتشابكة في أحيان أخرى، صانعاً للوحته إطاراً داخل الإطار، مع اعتناء خاص بالألوان الكامدة في معظم الأحيان، والتي قولبت فضاءات اللوحة ولم تترك لها مجالاً لتتنفس، وكأن تلك الخطوط باتت كقضبان توارت الحروف خلفها ساعيةً للتمدد والخروج لكن من دون جدوى.
أمر آخر استعان به «طلاع» وهو استخدام بعض الألوان الإعلانية الفاقعة، لموازنة قتامة الألوان التي صنع بها حروفياته في عدد من لوحاته، لكنها جاءت غير منسجمة مع بقية العناصر، حيث بدت غير مناسبة في أعلى اللوحة من ناحية التكوين ولا من جهة صبغة اللون، كتلك التي جاءت بلون أقرب إلى «الفوشيا»، وفي لوحة أخرى أزرق سماوي، وغيرها.
على صعيد آخر، تبقى قدرة الفنان «طلاع» على الانطلاق من روح المكان، وخصوصية الحرف التشكيلية، سمة مميزة، فهو لم يتأثر بمدارس غريبة عن واقعنا، بل شهدت أعماله نمواً مطرداً لتجسيد مفرداتنا بفرادة، وهذا يتحقق من خلال الحرف العربي وتراكيبه الخاصة وعلاقته التكوينية مع بقية عناصر اللوحة، كما إن للألوان في أعماله علاقة وثيقة الصلة بالجولان الذي غادره في عمر الأربع سنوات حيث شقائق النعمان، والبطم، والخبيزة، والثلج، التي تركت أثرها البليغ في خلطاته اللونية التي يعود إليها تلقائياً بطريقة غير واعية في كثير من الأحيان، فهل نستطيع القول إن «أكسم طلاع» في جميع لوحاته يرسم مسقط رأسه بجمالياته واكتظاظ الذكريات والشجون فيه وقتامة العيش من دون زيارته؟ أكاد أجزم أن في فن «طلاع» الكثير من ذلك.
هل يصنع أكسم طلاع من حروفياته جولانه المُشتهى؟
شاهد أيضاً
“برنامج سفينة شباب عُمان” على قائمة “اليونيسكو” للتراث الثقافي غير المادي
شام تايمز – متابعة نجحت سلطنة عُمان في إدراج برنامج سفينة التدريب الشراعي “شباب عُمان” …