«حارس الفلة البنفسجية» لمفيد عيسى أحمد.. تميمة في غوايات السرد

مُدهشٌ «مفيد عيسى أحمد» كيف يُدغمكَ بقصصه، فتتورط في أفعال شخصياته، وكأن بلاغة تصويره للأحداث ولدواخل أبطاله بمثابة تميمة تُماهي القارئ بأجواء القصة وغوايات سردها منذ القصة الأولى «ثلاثة حقول وأربعة براعم»، إذ نعشق حارس المسرح الذي بنى عالمه الخاص، وأدى فيه جميع الأدوار التي يريدها على خشبة الخلاص، إلا دور القاتل لأنه لم يجد ضحيته، إلى حين لقائه بالممثلة «قمر» التي تحيل عالمه إلى مشهد واحد لا ينتهي، هو مشهد الافتتان بها، والشوق المتواصل لها، لكن لأنها تُجيد التمثيل، ولأنها مقتنعة تماماً بما قالته للحارس مرة من أن «الستارة مرفوعة دائماً وما خلفها كالذي أمامها» بدأت رويداً رويداً تُمارس التمثيل على مسرح الحياة، حتى بات غيابها نظير حضورها، ولكثرة ما خلفت من آلام في قلب حارس المسرح، تغلَّبَ عليها بأدائه المُستمر لدور قاتلها، حتى تمكن من تطبيق مقولتها جاعلاً منها مقتولةً في قلبه.
يستمر فعل القتل وتمثُّلاته ومحاكمته في قصة «ما يشبه انعدام الإحساس»، فبين العِشْرة والانتماء لإيديولوجيا التكفير القائمة على أن من ليس معنا فهو ضدّنا، تتعزز مشاعر رجلين ضد جارهما طبيب الأسنان ويقرران قتله بعد إنهائه جلسات علاج أسنان أحدهما، ليتحول فعل القتل شيئاً فشيئاً من تصوُّراته المجازية إلى الواقع، لكنه في السَّرد لا يتحقق إلا في مجازاته التي أنهى فيها «أحمد» قصته من إحساس المريض بألمٍ مفاجئ في أعصاب أسنانه لن يهدأ إلا بمساعدة الطبيب.
قصة «الغناء بألسنة مبتورة» تذهب أبعد في تحسُّس الصَّوت، وتباين النَّبرة، وتصوير الالتزام كأغنية، والتمسُّك بمبادئ الرّجولة والجَمال والنَّقد على هيئة رجل اسمه «صقر زبيدو» لكثرة ما بات «لسان حال» المقهورين قطعوا لسانه، لكنه أورث غناءه/ قضيته بصوتها العذب إلى ابنه «عبود بربر» الذي تم إقصاؤه أيضاً عن مجتمعه مع حكم الرايات السوداء، بينما أغانيه ظلَّت أصداؤها في الوجدان.
وبين حاضر الشخصية وماضيها يُكثِّف «مفيد» من الأسئلة، وكأنه ينبش الزمن ويعيد ترتيبه ليزيح الغموض ويرسم أحرف عطف تُفسِّر ما آلت إليه شخصية ذاك المتمترس خلف الكلمات المتقاطعة في شارع «تشرين»، باحثاً عن «كلمة من ثلاثة أحرف» لقوم رُحَّل، حيث إن جنونه قريبٌ من القلب بقدر غرابته، لدرجة أننا تمثَّلنا صرخة الطبيب الذي يعرفه: «غجر، بدو، نَوَرْ»، فبعد ضربات الزمن المبرحة لا بد من أحدٍ ما يقدم لنا الإجابة واحتمالات عيشها في مُضارعها المُستمر.
وبعد أن تجرفنا تيارات «مفيد» السردية، فإنه يخالف كل توقعاتنا، إذ يتفرَّد في قفل قصصه وعوالمها السحرية، إذ إن الحمية التي أصابت سكان البناء من دخول شاب وفتاة إلى إحدى الغرف المستأجرة، ومشاركة بعض العابرين في الرأي حول ما يمكن فعله، تبدَّدت جميعها بعدما خرجت الفتاة بوجه مجدور و«نظرة ضارعة حزينة»، وانفض الكلّ عن المشهد، لأن كل التخيُّلات عما يحصل في داخل تلك الغرفة تلاشت مع كم الحزن والخذلان في وجه الصبية، حتى إنهم لم يكترثوا فيما إذا خرج الشاب أم لم يخرج.
دقة ومهارة فريدة في وصف النَّفس والحدث تميَّزت بها جميع قصص المجموعة، وتمثَّلت بوضوح في توصيف «وجيب الأرض»، حيث «اللواش» قادر على معرفة نوع الآلية وبُعدِها عن القطعة العسكرية المحاصرة، وفيما إذا ترجّل سائقها أم لا، لدرجة أنه أنقذ زملاءه من هجوم شرس قامت به الجماعات الإرهابية، والصادم في القصة هو إصراره على ضرب «ترك التويوتا» القادم المُفخَّخ، برغم معرفته أن من يقوده هو «عقلة» أخوه الصغير.
قصة «يونس في تونس» ترصد لازمة الغياب وتبدُّلاتها لدى العجوز «أم يونس» وانتظارها لابنها ثلاثين عاماً أمام البحر من دون أن يعود، لتتوقف عن تأسِّيها بعد أن تصالحت مع نفسها، معتبرةً كل الشبان الذين يغادرون طرطوس عائدين إليها شهداء هم «يونس»، لكن التراجيديا الأكثر قهراً تجسَّدت ضمن «صورة أخيرة لحياة مضت»، وبرغم حيوية السَّرد والتَّنقُّل في سيرورة الحكاية، فإن إيمان الدرويش «نظير»، العتَّال في سوق الحشيش الحمصي بأنه شاعر، ومحاولة الراوي وصديقه «أحمد» تدوين قصائده التي يقولها على سجية الأطفال وببراءة اللغة البكر، كانت بمثابة توطئة حميمية لموته بطلقة بين عينيه اللتين تفاجأتا بإرهابيين يكرهون الشعر والشعراء، وبموتنا نحن من الألم بعدما تعلَّقنا بجَمالِ روحه وعفويتها.
تختتم المجموعة بقصة «حارس الفلة البنفسجية» في أعلى درجات السخرية المُرّة من امتهان البشر، إذ إن «سامي» بجبروته وصلابته لم يكن سوى حارس للطفلة «سوسو» على شاطئ البحر، ولـ«شحاطتها» ذات الفلة البنفسجية، فهو مهدد بالموت إن تضايقت «سوسو» أو اغبرَّت مشَّايتها.

شاهد أيضاً

“عاصي الحلاني” يلتقي محبّيه في لندن

شام تايمز-متابعة يستعد الفنان “عاصي الحلاني” بعد النجاح الكبير في باريس، للقاء محبيه في لندن …