المهندس علي المبيض – مستشار وزير السياحة
شكّلت سورية بموقعها المهم محط أطماع وصراعات كبيرة للممالك والإمبراطوريات التاريخية ومنذ أقدم العصور وبسبب ذلك شكلت ساحة لصراع النفوذ والذي كان يتحول في كثير من الأحيان إلى حروب طاحنة إذ إن موقع سورية يشكّل مفترق طرق إستراتيجياً و صلة وصل بين القارات الثلاث وممراً إجبارياً للطرق التجارية وأتاح موقعها أن تتحكم بالقوافل التجارية التي كانت تجوب العالم من الشرق والغرب وقد أدركت الإمبراطوريات الكبرى القديمة أهميتها الإستراتيجية وتيقنت تلك الإمبراطوريات أن من يملك القرار في هذه البقعة الجغرافية فإنه يتحكم بمنطقة كبيرة ومهمة من العالم.
ولما غزا الإسكندر المقدوني سورية في عام 333 قبل الميلاد وأقام معسكره في تخوم مدينة أنطاكيا السورية وشرب من مياه نبع قريب من معسكره قال مقولته الشهيرة «ماء هذا النبع يذكرني بحليب أمي… سورية هي وطني الثاني» وبقي يتردد صدى هذه المقولة طيلة 2262 عاماً وبالتحديد حتى عام 1929 م، وذلك عندما تم اكتشاف أبجدية أوغاريت في محافظة اللاذقية وهي أول أبجدية عرفتها البشرية وعندها قال الباحث الفرنسي أندريه بارو المدير الأسبق لمتحف اللوفر في باريس: «إن على كل إنسان متمدن في العالم أن يقول إن لي وطنين، وطني الذي أعيش فيه وسورية».
يرى كثير من الباحثين أن الآراميين هم قبائل بدوية رحّل خرجت من الجزيرة العربية على شكل هجرات باتجاه الشمال واستوطنت بلاد الشام منذ الألف الثانية قبل الميلاد وأنشؤوا فيها مدناً كانت بمثابة مركز لتجمعاتهم، وكان يسكن المنطقة التي استقر فيها الآراميون شعوب كانت على مستوى متقدم من الرقي والوجود الحضاري بعض هذه المدن كانت موجودة من قبل وصولهم مثل دمشق وحماة حيث أطلق عليها آرام دمشق وآرام حماة، وبعضها لم تكن موجودة حيث أنشأها الآراميون في مواقع إستراتيجية على طرق القوافل التجارية أو قرب مواقع المواد الخام القريبة من الغابات ومن السهول مثل: بيت بخياني، بيت زماني، وسميت بذلك تبعاً لمؤسسها وهذا يعكس مدى الخبرة التراكمية الفطرية الكبيرة للآراميين، بمعنى أنه كان هناك تخطيط لمستقبل وجودهم في بلاد الشام وأن إقامتهم ستكون طويلة بل دائمة لذلك ازدهرت هذه الممالك وحققت نمواً اقتصادياً منقطع النظير وبالطبع فإن الآراميين نقلوا معهم عاداتهم وتقاليدهم ولغتهم وبنفس الوقت فقد أثّروا وتأثروا بالشعوب التي كانت موجودة بالمنطقة أو بالمكان الجديد، لكن هذه الممالك الآرامية لم تستطع أن تتوحّد فيما بينها على الرغم من كل العوامل المشتركة التي كانت تجمعهم فلقد كانت تلك الممالك مستقلة عن بعضها البعض وفي بعض الفترات كانت على خلاف ولم تكن على وفاق على الرغم أنها كانت متجانسة من عدة نواحٍ: أصلها مشترك، عقيدتها واحدة، مصالحها الاقتصادية مشتركة، عدوها واحد، هدف هجرتها وخروجها من الجزيرة العربية نفسه وكان الأجدى بتلك الممالك أن تسعى بجدية وحزم للاندماج وتحقيق وحدتها ولكنها لم تستطع تحقيق ذلك رغم كل شيء، بدأت القبائل الآرامية تشكل خطراً على الإمبراطوريات الكبيرة ويتبين لنا ذلك من خلال رسالة أرسلها الملك الحثّي عام 1275 قبل الميلاد إلى ملك بابل «قداشمان الثالث أن أحلاموا (وهو الاسم الذي كان يطلق على الآراميين) قد جعلوا الطرق بين المملكتين حافلة بالأخطار»، لذلك فقد أصبحت هدفاً لأطماع المحيطين وعرضة للاعتداءات التي أنهت سيادتها، وعندما كان الآراميون يتعرّضون للتهديدات أو الأخطار من الممالك المجاورة كانت مملكة آرام دمشق وهي سيدة الممالك الآرامية تقود تحالفاً عسكرياً للوقوف في وجه توسعات وأطماع الممالك المجاورة لكن بعد كل مواجهة عسكرية كان عقد الممالك الآرامية ينفرط مجدداً ويعود الآراميون للحال الذي كانوا عليه متفرقين، ومع ذلك فلابد لنا أن نذكر أنه لا يمكننا أن نحكم على سلوك الآراميين الذين عاشوا في تلك الفترة نفس معايير ومعطيات عصرنا واحتياجاتنا الحالية إذ كان تأسيس الممالك الآرامية أقرب إلى ممالك المدن والتي يتم بتجمع عدة عشائر حول مشيخاتها بعفوية وتستوطن إحدى المناطق وتبدأ بتكوين علاقات مع العشائر المجاورة لها ويصبح لها حيز جغرافي ودبلوماسيون وإلى ما هنالك، وقد يكون ذلك من ضمن الأسباب الذي منعتهم من تكوين ممالك موحّدة، لكن وعلى ما يبدو أن صمود الآراميين وقوة توسعهم لم ترافقهما القدرة على استثمار نفوذهم في المساحات الكبيرة التي كانوا يشغلونها والاستفادة من مقدراتهم وإمكانياتهم مجتمعين فلم ينشئ الآراميون وحدة سياسية فعالة وهو ما شكل العامل الرئيسي في ضعفهم وانقساماتهم إلى ممالك صغيرة مجزأة ولم يكن لديهم جيش موحد مما جعلهم تحت رحمة الإمبراطوريات الكبرى، لذلك فإننا نلاحظ أن وسائل الدفاع هي الطريقة المثلى لحمايتهم من أعدائهم فكانت التحصينات الدفاعية العسكرية للمدن الآرامية خير شاهد على ذلك، فبرعوا ببناء الأسوار والأبراج والقلاع، لكنهم ومع ذلك فلقد استطاع الآراميون أن يتركوا بصمة ثقافية كبيرة وأسهموا في بناء حضارة عظيمة توزّعت آثارها عبر آلاف السنين وبمناطق مختلفة في كل موضع أقاموا فيه وعلى امتداد الجغرافيا السورية، وهي حضارة مستمرة متوارثة بمعنى أنها متعاقبة وغير منقطعة وأسست لتواصل حضاري في المنطقة لم ينقطع، فلقد استوطن الإنسان القديم دمشق ومحيطها منذ الألف الثامنة قبل الميلاد واستمر في الألف السابعة والسادسة والخامسة والرابعة والثالثة والثانية ولغاية اليوم مع ما يحمل هذا الاستمرار من تأمين مقومات الحياة المختلفة والاجتماعية والثقافية والفنية ومستلزمات الحياة المعيشية.
واللغة هي إحدى أهم المقومات الضرورية لأي تجمع وأحد أهم ملامح الدور الثقافي لكل حضارة والوعاء الوحيد الذي يضم ويحمل مقومات أي أمة، ولقد انقسمت اللغة الآرامية اعتباراً من القرن الأول الميلادي إلى لهجتين رئيسيتين: هما الآرامية الشرقية والآرامية الغربية وكان نهر الفرات هو الحد الفاصل بين المناطق التي انتشرت فيها تلك اللهجات حيث انتشر من يتحدث بالآرامية الشرقية في بلاد الرافدين في حين انتشر من يتحدث بالآرامية الغربية في سورية بكاملها ووصلت إلى شمال غرب الجزيرة العربية، ولا يخفى على أحد أنه وعلى الرغم من طول المسافة الزمنية التي مرت على اللغة العربية والآرامية إلا أن اللغتين ظلتا محتفظتين بروابط ووشائج قوية ومن المحتمل أن يكون تأثير اللغة الآرامية في اللغة العربية آت من اختلاط العرب بالسريان منذ العصور القديمة إذ إن السريان شعب أقام قديماً في هذه المناطق وأول ما يتم التأثير فيه بين الناس هو اللغة لأنها الوسيط اليومي للتعامل بين البشر ودخلت لغة القبائل الجدد في تجاذبات مختلفة مع لغات السكان الأقدم وكتب لها النصر عليها وفقاً لقوانين الصراع اللغوي ويرى الباحثون أن هذا التأثير بدأ مفعوله في وقت مبكر وانقطع فيما بعد وهو الوقت الذي وقفت فيه حركة الترجمة من اللغة اليونانية إلى اللغة العربية عن طريق علماء سريان وكما هو معلوم فإن ظهور أي لغة وبشكل قوي بين السكّـان الأصليين عن طريق وافدين جـدد وبشكل كثيف يعني أن تلك اللغة الجديدة ستكون هي الوسيط اللغوي الأكثر استعمالاً وتداولاً وستكون هي البديل عن الأصيل لذلك فلم يكد ينتصف القرن الرابع قبل الميلاد حتى كانت الآرامية قد طغت على جميع الألسن وزاد انتشارها وبسطت سيطرتها في سائر أنحاء بلاد الشام فاشتبكت في صراع مع لغة الكنعانيين جيران الآراميين في الشمال الغربي وقضت على العبرية في أواخر القرن الرابع الميلادي وعلى الفينيقية في القرن الأول قبل الميلاد وأصبحت اللغة الآرامية بعد ذلك لغة التفاهم والمخاطبة وصارت هي اللغة السائدة في التخاطب والتفاهم في جميع بلاد العراق رغم أن الآكدية استمرت مستعملة لفترة بعد ذلك إلى أن انقرضت، وفي سورية وفلسطين والمناطق المجاورة الأخرى وصلت الآرامية إلى أقصى درجات اتساعها في المرحلة المحصورة بين 300 قبل الميلاد و650 ميلادية وبلغت مساحة البلاد الناطقة باللغة الآرامية نحو 600 ألف كيلو متر مربع وكان لها فوق ذلك منزلة اللغة الدولية في كثير من المناطق المجاورة لها والتي لم تكن خاضعة لنفوذها فقد عثر في آسيا الصغرى على نقود صدرت في عهد بعض ولاة الفرس تحمل رموزاً آرامية وكان للآرامية في مصر حضور واضح لا تقلّ عن منزلتها في البلاد الأخرى كما دلّت على ذلك بعض الوثائق التي تم العثور عليها في بلاد النوبة ويرجع تاريخها للقرنين السادس والخامس قبل الميلاد بل صارت الآرامية وسيطاً لغوياً مهماً وانتقلت إلينا عن طريقها كثير من المفردات البابلية التي دخلت عن طريق الاستعارة إلى البابلية وإلى العربية في أزمانٍ مختلفـة من التاريخ (أوزة وزا، بقل بقولا، تين تينا، أسفين أسفينا، تل تلا، تشرين تشرينا، اذان ايدان) وقسم لا بأس به من أسماء مدن وبلدات ريف دمشق من أصل آرامي أو تلك التي تبتدئ بـ«كفر» وتعني بالآرامية قرية.
والخلاصة فلم تكن تضاهي اللغة الآرامية أي لغة أخرى على وجه المعمورة لاسيما في طول عمرها وقدمها ويكفيها سمواً وشرفاً أن يكون السيد المسيح قد تكلّم بها.