الشريط الإخباري

مصمم على أن يعمل في المسرح حتى الموت الفنان زيناتي قدسية: شيء ما في الممثل المتوهج لا يمكن الإفصاح عنه هو «سر الصنعة»

خمسون عاماً وهو يقف صلباً على خشبة المسارح ،خمسون عاماً يدافع عن قضايا جوهرية ليثبت أن الفن من الإنسان وإليه، فنان حمل قضيته في قلبه واستطاع في كل شخصية قدمها أن يترك أثراً له طعم خاص في عقل وقلب ووجدان المتلقي …عاش في ذاكرتنا مدة طويلة تمتد إلى سنوات عجاف من التعب والجهد والصبر ..فنان المسرح زيناتي قدسية كان لـ«تشرين» معه هذا اللقاء.

•لنبدأ بمسرحية (أبو شنار) مونودراما تحدثت عن واقع فلسطيني مؤلم يفيض بحلم الرجوع ويؤكد حق العودة المشروع، كيف استطعت أن تحافظ على عنصر الجذب على الرغم أن بطلك عاجز عن الحركة؟
•• كل مكوّن من مكونات العرض المسرحي ينبغي أن يتوفر على عنصر جاذب وإلا تحول إلى عالة ثقيلة على المكونات الأخرى، وتالياً يحدث أثراً سلبياً على قابلية التلقي… من هنا تأتي أهمية عناصر الجذب في كل مكونات العمل الفني (الديكور، الأزياء، الإنارة، الموسيقا، وحتى الفراغ وأبعاده)..ولو اقتصرت المسألة على مكون واحد لَهان الأمر ولكن هذه المكونات تنطلق كلها دفعة واحدة منذ لحظات البدء الأولى وتستمر مجتمعة حتى عتمة الخيام ولكِ أن تتصوري مقدار الجهد الذي يبذله الفنان الحقيقي للمحافظة على توهج عناصر الجذب حتى اللحظة الأخيرة من عمر المنجز الإبداعي… ماقلته في الواقع، هو تمهيد للتحدث عن سيد كل هذه المكونات أي الكائن الحي الذي سيضخ الدماء في شرايين كل ما هو موجود على الخشبة …الممثل _المبدع ،الذي سنعيش كمتلقين على وقع أنفاسه طوال قوة العرض ..عنصر الجذب الرئيس في العرض المسرحي ..الممثل الذي يمتلك المهارات المتفردة على المستويات كلها، جسداً وصوتاً ومشاعر وتعبيراً،الممثل القادر في كل شخصية يقدمها على الخشبة على أن يترك أثراً له طعم خاص في عقل وقلب ووجدان المتفرج ويعيش في ذاكرته مدة طويلة ..هل يمكن أن نسمي هذه المهارات لدى الممثل المبدع عناصر جذب؟ هل هي كافية أم إن هناك معطيات أخرى لم نكتشفها عبر تجربتنا بعد،وتحتاج إلى بحث وتنقيب أعمق لإدراك ماهيتها وإخضاعها للتفسير والتوصيف وهذا يساعدنا على التمييز بين ممثل متوهج وممثل منطفئ؟ أنا أجزم بأن هناك شيئاً ما في هذا الممثل المتوهج غير واضح المعالم، لكن تجليات هذا الشيء تبدو واضحة في الألق الذي يضيفه على كل لحظات العرض.. شيء لا يتم الإفصاح عنه! ويكتفي بالقول على طريقة المصطلح الشعبي: سر الصنعة! هذا السر يحتاج إلى محقق فذ، أقصد ناقداً، خبيراً للكشف عنه.. تعلمين أنني كاتب نص «أبو شنار»، وصدقيني وأنا أكتب هذا النص، لم تخطر في بالي مسألة التمثيل على الإطلاق، كان همي مُنصباً على خلق الإنسان التي تساعد «أبو شنار» على المزاوجة بين رواية حلمه والواقع الذي يعيشه في اللحظة الراهنة ..هذا يحتاج إلى حديث طويل المهم أنني نجحت إلى حد معقول في خلق منظومة كفلت لأبي شنار أن يعبّر عن نفسه بكثير من الصدق والحرية والجرأة، لكن المشكلة بدأت تطل برأسها منذ اليوم الأول للتدريبات.. فقد فوجئت مع أني الكاتب بأنني أمام شخصية مشلولة الساقين ،عاجزة عن الحركة أقعدوها في مكان محدد! أقول فوجئت وارتجف قلبي بمنتهى الصدق..ونهض السؤال المعلق: كيف؟ هذا الممثل بتواضع الذي كان ولا يزال حتى مع تقدم العمر يملأ خشبات المسارح بالحركة والليونة اللافتة، الممثل الذي مشى على يديه في عرضيّ رحلة حنظلة و«مجنون يحكي وعاقل يسمع» ،كيف يمكن أن يمثل الآن بنصف جسد ؟ هل تستطيع كل مكونات العمل الفني التي ذكرناها والمهارات التي يتفرد بها الممثل أن تنقذ الموقف؟ قد نجد حلولاً للمكونات الأخرى، ولكن ماذا عن كل مهارات الممثل التي ستغيب حتماً في هذه الحالة؟.. من هنا تنبع مشروعية سؤالك… قوة الجذب من أين جاءت إذاً؟ ومامعنى الحضور وما طبيعة ماهيته؟ لم أكن أملك سوى صوتي ووجهي وذراعي وأصابعي.. من دون أي سند آخر… كيف حافظت على قوة الجذب؟ لا أدري…وهل يمكن أن نعد أن قوة الجذب تكمن في كل ماتحدثنا عنه من مكونات ومهارات شخصية فقط، أم إن هناك شيئاً آخر؟ أهو هبة من الله يمنحها لمن يشاء ويمنعها عمن يشاء؟ أيضاً لا أدري! لكن سؤالك مباغت وجدلي بكل المقاييس..
• شكلت في ثمانينيات القرن الماضي ثنائياً مسرحياً رائعاً مع الكاتب الراحل ممدوح عدوان وتحولت أعمالكما إلى ظاهرة فكرية وثقافية.. لنتحدث عن تلك الفترة وخصوصيتها.. وهل اليوم هناك ثنائيات كما كانت في الزمن القديم؟
•• كثيراً ما تحدثت عن ممدوح عدوان،عن نشأة العلاقة وتطورها إلى أن وصلنا عبر عشرين عاماً إلى شراكة إبداعية من نوع خاص…وفي كتاب (القابض على الجمر) أحاديث في هذا الإطار، لكن مهما تحدثت عن ممدوح سأبقى مقصراً ولن أفيه كل هذه الأحاديث وأضعافها حقه.. عرفت في ممدوح أشياء كثيرة خلال رحلة جاوزت الثلاثين عاماً وكم تمنيت أن تطول وكنت أتصور أنني محظوظ لأنني مُطل على الكثير من تفاصيل حياة هذا الإنسان المتعدد والمتفرد إبداعياً وإنسانياً ..لا تنسي أن ممدوح كان شاعراً وكاتباً مسرحياً وروائياً ومترجماً وناقداً أدبياً وصحفياً من طراز رفيع ..هذا التعدد قد يبدو فوضوياً لوهلة لكنه في حقيقة الأمر هو الذي كرس فرادة ممدوح وكل إنجاز في هذا التعدد يكمل الإنجازات الأخرى ويصب في الجوهر الكلي له، بحيث ينطبق عليه التوصيف الاستثنائي «نسيج وحده» بجدارة… أقول كنت أتصور أنني أعرف الكثير عن ممدوح وربما أشياء لا يعرفها غيري ولكن حين رحل اكتشفت أن هناك أشياء كثيرة في هذا الكنز المملوء لم أستطع التعرف عليها وهذا ما ضاعف حزني وألمي على رحيله، إضافة إلى شعوري بالخسارة الفادحة التي مُنيت بها.. في هذه العجالة أقول: مثلما كان غسان كنفاني فاتحة وعيي وإدراكي لما يجري حولي،كان ممدوح قد شكل انعطافاً مفصلياً مهماً في تجربتي الإبداعية والإنسانية على حد سواء ..كانت مرحلة العمالقة، عمالقة الشعر والأدب والفن، ولكِ أن تتذكري من تشائين وأن تتصوري كيف كان عليه الحال وكيف أصبح بعد رحيلهم.. أما عن الثنائيات وخاصة التي قدمت إنجازات مهمة ومؤثرة فهي لم تعد موجودة الآن..
• دعوت ذات يوم إلى مسرح جديد حُر مقاوم لماذا؟ وما حال المسرح في عالمنا العربي؟ وماطبيعة هذا المسرح الذي تدعو إليه؟
•• في رسالتي التي ألقيتها في الكويت عام 2016م في افتتاح الدورة الثامنة للمهرجان العربي للمسرح دعوت إلى مسرح جديد حر ومقاوم كسبيل أوحد لإنقاذ مايمكن إنقاذه مما تبقى من التجربة المسرحية العربية.. دعوت إلى ذلك بإلحاح لأن المسرح في عالمنا العربي لم يكن حراً ولا مقاوماً في يوم من الأيام! ولو كان كذلك لاختلف الوضع والنتائج التي تمخضت عنها التجربة المسرحية العربية خلال مئة وسبعين عاماً مريعة وتدعو إلى الرثاء..باختصار وصلت هذه التجربة إلى طريق مسدود وتفصيل الأسباب يحتاج إلى كلام يطول..لو عددنا أن المسرح يقف على رأس سلم الحضارة الإنسانية ولو تصورت أن أي أحمق أو جاهل يهز هذا السلم من أسفل فإن الذي يسقط أولاً وحتماً هو المسرح .. ومع شديد أسفي واعتذاري للمعتدين بما يسمونه «المسرح العربي» أن هذا الأحمق الجاهل قد هز هذا السلم منذ زمن طويل ولا أبالغ إذا قلت منذ نشأته المزعومة الأولى ..وأنا أرحب بمناقشة هذا الأمر مع من يخالفني الرأي.. وكوني من المنشغلين في الشأن الثقافي والمسرحي تحديداً من حقي وأنا ابن هذه التجربة المُرة أن أبدي رأياً وأقدم مقترحاً وأدافع عنه وأعمل على تحقيقه خطوة فخطوة.. من هنا جاءت دعوتي للاندفاع بوعي وجرأة وحكمة إلى مسرح جديد حر مقاوم.. وأسارع إلى القول بأن هذا المسرح ليس من ابتكاري ولا هو طارئ في حياة الشعوب لأنه ببساطة حر بطبيعته ومنذ نشأته الأولى ولد مقاوماً وقدم آلافاً مؤلفة من العروض المقاومة بالمعنى الحرفي للكلمة، مقاومة المحتل، العدو الغازي، المستعمر، وفي كل دول العالم هناك دائماً حضور لافت للمسرح المقاوم وإن اختلفت أساليب التعبير عن روح المقاومة من مسرح لآخر وما دام هناك قاطعو رؤوس وآكلو قلوب وأكباد، وما دامت هناك قابلية لنشوب حروب كونية ومادام على الأرض أرباب يعملون على تخريب العالم وتدمير أمنه عبر التاريخ ويسعون لأن يكون كل شيء على أرض البشر ملكاً لهم وحدهم ..مادام كل هؤلاء يعبثون بحياتنا ومصائرنا فإن المسرح المقاوم هو الذي يجب أن يبقى حياً معبراً عن حرية الإنسان والشعوب وكراماتها ..مسرح متحرر من ظلامية الغول الذي ينشب أظفاره ليشد التجربة الإنسانية برمتها إلى الكهوف المظلمة …مسرح جديد حر.. نقيض للحداثات المزيفة وغير الأصيلة والطارئة التي أحدثت اختراقات في حياة البشر على كل المستويات ..حين ننتصر للحب وننبذ الكراهية فنحن نقاوم وحين نتحدث عن حق الإنسان في الماء والطعام والهواء والحياة الحرة الكريمة فنحن نقاوم وحين نتحدث عن المرض فإنما ننتصر للصحة، وتالياً نقاوم وحين نتحدث عن حق الأطفال في التعليم وحمايتهم في كل مايمكن أن يشوه طفولتهم ويعمل على تدميرها فنحن نقاوم..المقاومة مفتوحة على كل المستويات وواهم من يعتقد أن أمامنا خيارات أخرى…
• طوال فترة الحرب على سورية لم تهجر المسرح وقدمت جميع مسرحياتك على خشبة المسارح في الوقت ذاته الذي عانى المسرح من هجران وفقدان أبنائه، ماهي رسالتك التي كنت تقدمها وهل تعتب على هجران بعض زملائك لهذا المكان العريق؟
•• لا أدعي بأنني أقدم أو أبعث رسائل إلى أحد، عملي في المسرح هو في جوهره تأكيد على وجودي أولاً وجودي في المكان والزمان واللحظة الراهنة وكأن عملي في المسرح مرتبط عضوياً بوجودي في الحياة فتخيلي، ماسيكون عليه مصيري لو هجرت المسرح ..خمسون عاماً وأنا أنزف عرقاً على خشبتي القباني والحمراء..رائحة جلدي امتزجت برائحة الجدران والستائر والمقاعد والكواليس، كيف يمكن للإنسان أن يتعرف على نفسه خارج هذا المكان الذي شكل ملامحه الأساسية على مدى هذا العمر؟ المسرح مقاوم في السلم كما أسلفنا، فكيف لا يكون مقاوماً في الحرب ؟! أما مسألة هجران المسرح وفقدان أبنائه فأنا لا أعتب على أحد لأن المسألة في الأساس هي مسألة موقف وخيار، وعلى الإنسان أن يتحمل مسؤولية خياراته.
• لماذا أنت مقل في أعمالك التلفزيونية، هل رغبة منك في العمل بالمسرح فقط أم إن المخرجين يعتقدون أنك تعمل في المسرح فقط؟
•• أنا مصمم على أن أعمل في المسرح حتى الموت.هذا خياري ولكن هذا لا يعني مطلقاً ألا أعمل في السينما والتلفزيون والإذاعة وغيرها..اعتقاد بعض المخرجين أنني لا أعمل إلا في المسرح هو اعتقاد خاطئ، بعضهم يميز تمييزاً أعمى بين ممثل السينما والتلفزيون والمسرح ،وكرسوا بقصد أو من غير قصد صفة ممثل مسرحي على بعض الممثلين..اسألي هؤلاء من أين جاء كل الممثلين العرب إلى شاشتي السينما والتلفزيون؟ أليس من المسرح …هل سمعت أن في عالمنا العربي معهداً يُسمى المعهد العالي للفنون التلفزيونية ؟ أنا ممثل هذه مهنتي وينبغي أن يكون لي نصيب في العمل مثل كل زملائي حتى لو كنت ممثلاً سيئاً مع إنك تعرفين جيداً قائمة الأوصاف التي يطلقونها على زيناتي قدسية الممثل ..لا أقول هذا من باب مدح النفس وإنما أذكرك به من باب المفارقة، إذاً أين تصرف قائمة الأوصاف هذه؟ أهو إهمال أم ماذا؟
يارا سلامة
تشرين

شاهد أيضاً

محاضرة للباحث “صالح خلوف” في فرع دير الزور لاتحاد الكتاب العرب

شام تايمز – متابعة أقام فرع دير الزور لاتحاد الكتاب العرب  محاضرة  بعنوان “لماذا انحسر …