تتهادى حكاية الروائية الفرنسية الشهيرة «مارغريت دوراس 1914-1996» في كتابها «عيون زرق شعر أسود» (الصادر باللغة العربية عن دار نينوى بترجمة العراقيّ كامل عويد العامري) رويداً رويداً مثل حُلمِ ليلةٍ صيفيّة، رجلٌ أنيقٌ يعيش صدأ العزلة وشابّةٌ بعيونٍ زرقاء ولباس رياضيٍّ وحذاء أبيض وعشّاق كثر تلتحق بهم «في أكثر المضاجع عمقاً وهجراً حيث لم يتبقَّ سوى النَّفَس حتى ليعتقد المرء أن حيواناً ينام إلى جوارها».
لكن كل شيء في الرواية مُمسْرَحٌ حتى النهاية ولا شيء متروكاً للمصادفة أو السرديات المطوّلة. جملٌ قصيرة أشبه بملحوظاتٍ تعترض دائماً جسم النص كنوع من «تغريبٍ» يضعنا في كل لحظة خارج الاندماج الكامل في المشهد وبعيداً عن الغرق في الحكاية/ الوهم أو في مشاهد تتكون أمامنا كأنها «ماكيتٌ مسرحيٌّ» على شكل حياة مجتزأة ومتناهية في الصغر لعاشقين يكشفان عن روحيهما في لعبةٍ حواريةٍ طويلة تبدو كمونولوجٍ مفزعٍ، بينما الأفكار تتكشّف تباعاً ونكتشف عبرها كائنين يحرسان العزلة، كائنين يثيران الغثيان والتعاسة، إذ حتى لحظاتُ الجنس القليلة بينهما تبدو غريبةً ومنفّرةً وباردةً مثل «لمعة الفولاذ». كائنين يكرران فعل النوم عشرات المرّات كأنه فعلٌ استباقيّ يمكن أن يبطِلَ مفعول الألم الواقعيّ، هروبٌ من مجابهةٍ عبثيةٍ مع «الزمن الذي يجري بين الأشياء بين الناس. الزمن الذي يبدّده الآخرون من دون أن يعيروا أنفسهم اهتماماً، أولئك الناس التائهون». تدريبٌ على احتمال فكرة الموت لدرجة أن الشراشف البيضاء التي تلتفّ بها الشابّة تحت ضوء الغرفة الأصفر الشاحب تبدو أقرب إلى الكفن مما هي إشارةٌ رمزية إلى علاقةٍ حميمةٍ بين عاشقين. وتحت مسقط الضوء الأصفر وسط مكانهما المأتميّ وأثاثه المصنوع من خشب «الأكاجيو» المغطّى بغبار الرمل ورائحة العزلة يبدوان كأنما خارجان من دهليز عذابٍ طويلٍ غامضٍ، يتناوبان البكاء مرات عديدة ويعيدان النظرَ في المرآة والاستناد إلى الجدار فيما غلالةُ أسىً تنزلق دائماً فوق المشهد بهدوءٍ مثل الليل الساكن وعتمة المسرح.
لا استعارات شعرية أو صور مجازية بلاغية في هذه الرواية، بل هي جملٌ مقتضبة تحيلنا كما تحيلُ كائنيّ الغرفة إلى أسئلةٍ وجوديةٍ عن معنى «الكينونة» في الحياة ومعناها وهي تختبر موتاً قادماً حتماً، فهناك رعبٌ متجذّر في روح الكاتبة يتمظهر على شكل أسئلة متكررة في نصوصها وعلى ألسنة شخوصها، يقول الرجل: «خارج هذه الطرق وهذا الحب مَنْ هي؟ خارج الطرق وخارج حضورها في الغرفة مَنْ تكون؟».بينما حركة المدّ والجزر بين الشخصيتين تتناوب بإيقاعين موسيقيين رتيبين؛ أحدُهما يؤالفُ بينهما داخل معتزلهما الصغير، والثاني يوائم بينهما وبين البحر الهادئ قبالة الغرفة حيث في كلتا الحالتين لا شيء أكثر من «إيقاعٍ قمريٍّ دامٍ. وها هي ذي أمامه وكأنها أمام البحر»!. ويستوقفنا بشكل لافت شبه الغياب التام للمكان والجغرافيا التي تحدث فيها الحكاية. فلا وصف للمدينة أو شوارعها أو قاعها ولا سرد يتناول طبقاتها التاريخية أو الاجتماعية بل كما في الحيل الإخراجية المسرحية هناك اقتصادٌ أعظميٌّ للديكور والأغراض ما يجعلنا لشدّة هامشية المكان نركّز على الفعل/ الحدث الآخذ بالتشكّل أمامنا في غَبَش الضوء المصفرّ. وبقدر غياب الجسد كـ«ثيمة» جنسيةٍ مثيرة للرغبات بقدر ما تحضر العيون «كأنّ الزرقة كلّها كانت تنظر» ويحضر وجه الشابة المعشوق لا كموضعِ لاختبارٍ للحواس إنما كلوحةٍ للتأمّل، للأفكار، «للمعرفة والجنون، إذ يجب على (ذاك) الرجل أن يجرّب شعوراً بلا عاقبة، وألا يخلطه برغبةٍ جسدية» فما «يثير الاشتهاء هو الرأس الذكي؛ فبدونه لا يَعرف الجسدُ شيئاً»!.
الكتابة بالنسبة لدوراس صاحبة رواية «العاشق»- التي حازت بها جائزة «الغونكور» الفرنسية- هاويةٌ تمتحن بها نفسها وقرّاءها وعشّاقها وحتى والدتها التي ارتبطت معها بعلاقة صعبة بلا محبة أو حنان. لكن الكتابة هي هويّتها أيضاً أو ما يشبه تعريفاً لها لدرجة أنها سطّرت في إحدى شذرات يومياتها الجملةَ التالية فقط: «يدي تكتب!». وتقول في نَص «لا شيء بعد الآن» الملحق بالنسخة العربية من الرواية والشبيه بمذكّراتٍ نثريّة مهداة إلى «عاشقها الليليّ المعبود: يان أندريا» الذي تكبره بأربعين سنة وعاشت معه حتى وفاتها في علاقةٍ هزّت الأوساط الفرنسية: «أحياناً أكون فارغةً مدة طويلةٍ. أنا بلا هوية، هذا الأمر مثير للرعب في البداية، لكنه يحدث من خلال حركة السعادة، ومن ثم يتوقف. السعادة. ذلك يعني موتي البطيء وغيابي عن المكان الذي أتحدث منه».
جوا ديوب
تشرين