الشريط الإخباري

المختبر التاسع عشر لطلاب قسم الرقص… عن فلسفة الجسد وأفكاره!

أثمرت جهود الأستاذ مشرف قسم الرقص المسرحي معتز ملاطية لي في إنضاج عجينة أجساد طلابه بخميرة التعب وعرق التمرين المتواصل والدأب الحثيث ليشكلوا جميعاً «مختبرهم التاسع عشر لمادة التصميم الحركي» كما لو أنّهم على موعدٍ مع عرضٍ عالمي وليس فقط امتحاناً في فصلٍ دراسيّ.
إذ يجعلنا أولئك الطلاب في كل مرة وفي كل مشروع يقدّمونه نتساءل: أين تكمن كل تلك الأفكار؟ وكيف لتلك الأجساد أن تختزنَ فلسفتها الخاصة في صوغ الكلمات ونحتها باللحم الحيّ والأنفاس والمفاصل والأرجل والأصابع والرؤوس والشَّعر وكل خلية ومسامة من مسامات الجسد؟
كأنّ الأجساد سابقةٌ على الأفكار. بل كأنَّ الجسدَ بكامله ما هو إلا فكرةٌ مسكوبةٌ على شكل عظمٍ ولحم وليس علينا إلا أنّ نهزّ الجذع فتتساقط المعاني مثل ثمارٍ محرّمة لكنها خصبة ومملوءة بالحياة.. ضبابيةُ الفكرة في الفقرة الأولى «انغلاق» لـصبا رعد لم تدُمْ طويلاً خاصةً مع استخدامٍ غير مفهوم بدقّة للريش في كل مكان حول الراقصين (صبا رعد، وحيد الخطيب، كرمل سليمان) لكن ربما للايحاء بإمكانية استخدامه كأجنحة للطيران بعيداً عن انغلاق الآخرين وضغط وجودهم بجوارنا.
قد تبدو معظم المقاطع الراقصة عموماً إلى حدٍّ ما رهينة المتلقّي وتفسيراته وطريقة فهمه، لكن خيطاً فكرياً ونفسيّاً واهياً يربط بين جميع الفقرات هنا يمكن أن أدعوه بـ«ثيمة الصراع»، لذلك وبمرافقة موسيقا معدنية وأصوات جنادب وحفيف ودويّ ومياه متساقطة ندخل إلى المقطع الثاني «أثر» لإيمار خربوطلي (مع مجد عريج، حازم الجبة، والطفلة رند عباس) نشاهد ضمن «سبوت» ضوئي وسط الخشبة ما يشي بأنها أمٌّ وابنتها تتناغمان بالحركات نفسها وبالألم نفسه والانتظار ذاته، ثم نلمح شيئاً من صراع بين الشاب والصبية والأم أو ربما تشابكاً وعتاباً أو تأنيباً ومنعاً من الشاب تجاه الصبية التي تتناغم فيما بعد حركاتها مع حركات الشاب «ذي الكرسي الخشبيّ» فيما يبدو كما لو أنه انتصارٌ للحب المؤجّل الممنوع بينما لعبة الإضاءة مع الموسقا العاطفية تجعل من ظلال الراقصين هناك في عمق الخشبة مثل حلمٍ هنيّ يكتمل باجتماع الطفلة مع الشاب والصبية كأسرة سعيدة.
في فقرة «صفعة» لرهف الجابر (مع زين العابدين سليمان، سالي داؤد، وماريا معماري) وبرغم بعض الحركات المبهمة التي تبدو زائدة عن فكرة العطب الجسديّ الذي يسجن الإنسان ويجعل من روحه مثل كائنٍ يخور ويدور ضمن قفصٍ أو حلبة صراع شكّلتها أسيجةٌ قماشية على جانبي الخشبة، وبرغم الأزياء المصممة على طريقة لباس الرهبان فإن ما شفع للمشروع/الفقرة هو حركة العينين المتربصّة الراصدة المنتظرة في إحالةٍ إلى قسوة الانحباس والرقابة التي يتحرّر منها الراقصون الأربعة بتصميمٍ ذكي إذ يهرعون بعد تمزيق سجنهم نحو سلّمٍ يرتقونه كما لو أنهم يصعدون إلى سماء خلاصهم.
ولعلّ فريق الإضاءة كاملاً مع الاقتراحات السينوغرافية شكّلت مع الاختيارات الموسيقية قيمة مضافةً لمشاريع الراقصين الطلبة لكن اختيار مقطوعة «لاكامبانيلّا» في مشروع «تكرار» لهاني حمّود لم تكن مناسبة بحيويتها ورشاقتها وخفّتها لمضمون الفقرة حيث ثلاثة عُمّالٍ تكاد تفتك بهم ذئابُ الوقت نهاراً فلا يلبثون أن ينتهوا من أحمالهم وصناديقهم حتى تتأكّلهم دويبات الأرق ليلاً مع موسيقا هادئة تشبه سوناتا ضوء القمر لـ«بيتهوفن» أيضاً غير موفقة في نقل ذاك الصراع المتكرر بين نوبات العمل ونوبات الأرق التي تكاد تودي بهم إلى الجنون.
وتشدّنا في «سواد» لمجد عريج تشكيلاتُ أجسادٍ تذكرنا بلوحات عصر النهضة خاصةً مع ظلال الأصوات الأوبرالية المرافقة. وتسرقنا من الفهم الكامل للفكرة مهارةُ الطلاب الثلاثة (مجد عريج، حازم الجبة، وحيد الخطيب) في تمفصلاتٍ وتموضعاتٍ صعبةٍ انتزعت تصفيقاً من الجمهور بينما مظلّةٌ سوداء تهبط وتخيّم فوقهم وتغيّبهم في عتمةٍ كما لو أنها ثقبٌ أسود.
ويورّطنا زين العابدين سليمان بمشروعه «هكذا يحدث الآن» (مع رهف الجابر، محسن العبد الله، وكرمل سليمان) لحساسية فكرته التي تتمحور حول عدالة عمياء أو ناقصة أو قوانين تبدو في ظاهرها جميلة لكنها تنضوي على عذاباتٍ ونهاياتٍ تودي إلى مشانق اختارها الطلاب لتكون إحالة مباشرةً و»شبه فجّة» إلى واقعٍ نعيشه خاصةً مع إشراكهم للجمهور في الصعود إلى الخشبة ليشكّلوا الوجه المقابل لشخصيات اللوحة كما ليقولوا لنا إننا هم، وإنهّم نحن، وإننا جميعاً واقعون تحت الشرط الحياتي نفسه.
صعوبة التشكيلات الجسدية ومحاولات استنباط معادلاتٍ جسدية مبتكرة جعلت من فقرة «خط» لسماح غانم (مع رهف الجابر، مجد عريج، حازم الجبة، ونور علم) تقفز نحو درجةٍ جديدة في تحدّي الجسد نفسه مع وقوف الراقصة على جذع زميلها المحنيّ إلى الخلف بينما ثلاثة راقصين يشكّلون برجاً بشرياً على أكتاف بعضهم وجميعهم فوق طاولةٍ كانت أشبه بقفصٍ لإحداهنّ. وأيضاً هنا تغيمُ الفكرة المرجوّة لمصلحة الابتكار في التصميم الحركي لكن يبقى أنّ المختبر التاسع عشر لطلاب قسم الرقص في المعهد العالي للفنون المسرحية يجعلنا نتساءل: أين يختبئ كلُّ هذا الجمال الجسديّ المدهش؟ وهل سيستمرُّ الراقصون الرائعون في مشاريعهم الاحترافية المستقبلية أم سيكتفون بعلامة جيّد جداً التي يستحقونها بجدارة.

شاهد أيضاً

بإسم الرئيس الأسد والسيدة الأولى .. محافظ حلب يعزي بوفاة الكاتب والمؤرخ الدكتور محمد قجة عن عمر يناهز 85 عاماً

شام تايمز – متابعة بإسم السيد الرئيس بشار الأسد والسيدة الأولى أسماء الأسد ، قدم …