أفكّر بكل من مرّوا على هذه المهنة الشرسة كيف أنّهم، وعبر تاريخٍ طويلٍ وشاقٍّ، شدّوا أقواسَ همّتهم حتى النهاية، فمرّةً أطلقوا الزهور كمحاولاتٍ لتوزيع «صواني» الفرح على الناس، ومرّةً صوّبوا نشّابات نقدهم نحو «سميكي» الضمائر وفاقدي الذمّة من الجهات الخدمية والمتعفنين الانتهازيين.
أفكّر بهم كيف كتبوا بالصبر وارتفاع الضغط وانهدام الجسد وانخساف الروح أملَ المقهورين وأحلامَ البؤساء بذكرياتٍ سيصنعونها على مهلٍ وبكل الحبّ اللازم إنْ سمحَ لهم دهرُهم وواضعو الخطط الاقتصادية ومهندسو الأوضاع الاجتماعية وراسمو مناهج الخلاص من الأزمات. وكيف خاضوا حتى آخر شهقة حروباً مع قليلي الوفاء للبلد رغم إنهم عرفوا سلفاً أنها حروبٌ خاسرة وبلا أيّ قيمة وأنهم سيخرجون منها معطوبي الأمل!
كانت الهواجس تنهشني في الباص الذي أعادنا من مؤتمرٍ كلّف الحكومة «هديك الحسبة» لمناقشة مشروعِ قانونٍ يُفتَرضُ أنه سيضع اللبنات الأساسية لمحاسبة «بالعي البيضة والتقشيرة» و«آكلي الأخضر واليابس» منعاً واستباقاً وتحسّباً لأوضاعٍ كارثيّةٍ محتملةٍ وغير مرغوبةٍ لأيٍّ كان.
كنت أتأمل مرعوباً مستقبلي المهني أمامي في شخصِ زميلةٍ صحفيةٍ شعرتُ وهي تحدّثنا كيف أنها أضاعتْ أجملَ سنيّ صباها في مهنةٍ تأكل أبناءها كل يومٍ ومنذ عقود من دون أن نشعرَ حقيقةً وواقعاً وفعلاً أنّ هناك ثغرةً قد فُتِحتْ في جدار عروش اللاأخلاقيين والفاسدين وإمبراطوريات النهب ليدخل ضوء العدالة المنصفة منها ويكشِفَ ثقوبها السوداء للعلن.
كانت تلك الزميلة تتحدث وتتحدّث وتتحدّث وكأنّ جسمها في مكان، وروحها في مكانٍ آخر تماماً… بينما باصُ الرحلة مستمرٌّ في شخيره وهو عائدٌ بنا نحو مبنى الجريدة كما لو أنّه عربةُ الأميرة «أليس في بلاد العجائب» وكما لو أننا، نحن الصحفيين، آخِرُ «الدون كيشوتيين»؛ محاربو طواحين الهواء!.
جواد ديوب