لم يعد للنعوات الملصقة على جدران دمشق تلك القدّرة على إيقاف المارّة لاستطلاع خبر الموت، منذ اعتاد الناس رؤيتها تزداد يومياً، حتى إنّ بعضها كانت توضع فوق أخرى، ربما مرّ عليها أيام أو أسابيع مضى معها أصحابها ممن جادت عليهم الحرب بظروف من السذاجة وصفها بالأفضل إذا ما قُورنت بمن تُسميهم نشرات الأخبار «مجهولي الهوية». جثث مشوّهة على قارعة طريق أو متحللة في تفجير هائل، وأخرى في قاعٍ ما وحيدة لا دفن ولا جنازة لا صوت للباكين ولا معنى لنعوة، ولعلّه من السذاجة أيضاً ما يظنه أحدنا حين يشتري قبراً ويختار له «شاهدة»، بأنه سيحظى بميتة تهبه جسداً كاملاً ووداعاً لائقاً، في وقت يدنو منه الموت بلا اكتراث بمكان أو زمان ليحيله إلى «مجهول»!.
هذه المفارقة كانت هاجساً عند «صفاء الست»، حاولت أن تعيّد تشكيلها من زاوية قريبة، بدأتها بإعلان الموت جاراً، هكذا دونما مقدمات تشرح تفاصيل هذا الجار المقيم، ومنه كان عنوان معرضها القادم من بيروت والمستمر في «غاليري» تجليات «وأما بعد.. الموت يسكن قريباً مني»، وكعادتها في التقاط ما وراء الظاهر، بحثت عن ضحايا الحرب من المجهولين وهم الكائنات الأقرب للبشر، الطيور والأسماك وسواها من الثدييات والحشرات من قتلتهم الحرب وغادروا بصمت طويل.
ما تقدمه الست عن الكائنات المجهولة في زمن الحرب، يكتسب صفة المزيج بما فيه من عبث، فما تعانيه أرواح الغزال والببغاء والبقرة لا يعني شيئاً لكثير من الناس أمام آلام البشر المذبوحين والمحروقين في مختلف الصراعات، لكن الأمر مختلف تماماً بالنسبة إليها، لأن الوجع لا يحتمل التقسيم ولا يعترف بالأكثر والأقل أهمية، لذلك نرى في أعمالها المصنوعة من الحديد والنحاس عصفوراً بلا رأس وغزالاً برقبة ملتوية وحدوة بلا حصان، تلك وغيرها كانت بقاياها مرمية في كل مكان، في البيوت والحارات والشوارع، عظام وريش وجلد أكلها العفن وتخثر الدم في عروقها المفتتة، بعضها تفسخ حتى صار قطعاً، وغيرها استحالت شيئاً يابساً، مرّ من أمامه بشر كثيرون، ولم يعرفوا ما كان سابقاً!.
ومع أن مجمل منحوتاتها تصوّر أوضاعاً مختلفة لكائنات ميتة إلا أن عدداً منها يئن أو يحتضر في لحظاته الأخيرة، تماماً كمن نزفت جراحهم حتى النهاية، البعض ينظر نحو السماء مستغيثاً أو باتجاه الأرض مستسلماً لمساحته الضئيلة منها، وهناك من تأمل يده أو قدمه على بعد أمتار منه، وهو ما مثّلته أجساد الحيوانات الناقصة وحركات رؤوسها وانثناء أطرافها، كلٌ منها يطلق نداءه الموجوع على طريقته، لذا ربما اختارت البقرة أداء رقصة أخيرة لم تسمح لها الحياة بتقديمها، مع وجه مبتسم وأطراف توحي بالحركة، ولا تقتصر رؤية الست على الحيوانات المقتولة في الحرب، علينا أن نتذكر جيداً دورنا في قتلها لأسباب أخرى، أولها «الأكل»، وهي إشارة لتناقض غير مفهوم يعيشه البشر تجاه بعضهم وتجاه الحيوانات أيضاً، فكيف يصح أن نتعاطف مع الضحية ونحن القتلة، وكيف يستوي أن نسوغ القتل ونجد له أسباباً؟، وهو ما عبّرت عنه الست بأدوات المطبخ المغروسة في أجزاء الحيوانات، كالسكين والشوكة والمقلاة.
استخدمت الست معادنها المفضلة منذ بدأت مشوارها في عالم النحت، الحديد والنحاس، وطوعتها بما يتناسب مع موضوعها، بعد أن افتتحت قبل أعوام ورشة حدادة قرب دمشق، وفي معرضها عن الحيوانات منحت المعادن الصلبة أشكالاً وتموضعات مختلفة، أضافت إليها مخلفات قديمة كأنبوب حديدي وبعض البراغي لتصبح هياكل عظمية، أحشاء لكائن ميت، ريشاً لببغاء، قفصاً صدرياً وأطرافاً ورقبة وجذعاً ومنقاراً، مدببة ومقوسة ومثنية، وفي هذا تحدٍّ آخر، بين ما تسببه الأسلحة المصنوعة من مختلف المعادن، ومن ثم إمكانية جعل تلك المعادن كائناً مات بلا سبب أو يوشك أن يموت بعد رصاصة أو شظية أو حتى دهساً بآلية ما.
رفضت الست الإجابة عن أي سؤال صحفي، لكنها في تصريحات سابقة لها في بيروت قالت: إنها «لم تجد صالة عرض في دمشق تتسع لمنحوتاتها كلها، ولا يمكنها عرض جزء منها لأن ذلك انتقاص من الفكرة، لذا لم يكن أمامها خيار سوى دار نمر اللبنانية التي اتسقت صالة عرضها بشكل مذهل مع القطع الفنية، ولم تحتج سوى بضع ساعات لترتيبها ووضع كل قطعة في مكانها الصحيح»، ومع ذلك استغنت عن مجموعة «بقج» تضم جماجم حيوانات حقيقية مع بعض العظام، معلّقة على مشابك حديدية، لعلّها بسبب رغبة العرض في دمشق أو ربما هو سبب آخر، لكن في المحصلة لا بدّ من الإشارة إلى حالة من النضوج تقدّمها الست في منجزها النحتي، بعد أن قدّمت مشاريع ومشغولات من بقايا الحديد، وتجربة جميلة عن الأحذية، قيل إنها تصاميم لـ «سندريلا» لأنها جميعها كانت مكوّنة من فردة واحدة باستثناء تصميم واحد. «وأما بعد…الموت يسكن قريباً مني» رسالة من آلاف المجهولين، بشراً وحيوانات، ماتوا على طول المأساة وعرضها، ولم يحصل بعضهم حتى على رقم لجثته، أعادت صفاء الست كتابتها.
لبنى شاكر