النحاتة صفاء الست ليست فنانة فقط، بل تعمل بمهارة الرجل الحداد ذي العضلات المفتولة، على عكس رشاقة ونحول جسدها، فهي سيدة قادرة على طي المعدن من الحديد والنحاس، وتشكيله وفق مشاعرها وخطوط خيالاتها ليكون هذه المرة، هيكلا عظميّا، سواء لطير نافق، أو لغزال مثلا، أو أي شكل يخطر ببالها، كي تجعلنا نقف أمام أنفسنا ولو لبرهة وجيزة لنقول «توقف هنا أيها البشري.. وكن إنسانا في بعض اللحظات.. فالموت محيط بك كل حياتك.. ولابد منه وهو آتٍ». وهذا على نقيض ضجيجها الحياتي المرح، مع كل الأمل المحيط بهالتها الطاقيّة والعاكسة على كل من يقترب منها، ولكنها قالت لي بصوت متهدج «إنّ الموت قدر لا مهرب منه وخاصة في أزمتنا». للمزيد مما شاهدنا ومما قدمته لنا الفنانة التشكيلية صفاء الست بمعرضها الذي تضمن ثلاثاً وعشرين منحوتة، وجاء بعنوان: «وأما بعد.. الموت يسكن قريباً مني» حيث تمّ افتتاحه مؤخراً في صالة تجليات بدمشق، نتوقف عند بعض اللقاءات.
صفاء الفنانة
حدثتنا الفنانة التشكيلية صفاء الست عن تجربتها قائلة: وبعد أن استغربنا من عنوان المعرض والمنحوتات وما هو مخالف لما شاهدنا من ضجيج الحياة لديها والدعوة لمرحها، حيث تبتسم بهدوء وتقول «الموت يحيط بنا، وهو حق علينا، وكيف ونحن نعيش الحرب، بوجعها وبمآسيها.. المعرض يمثل الواقع فهذا ما نعيشه، المنحوتات اخترتها بشكل عشوائي، مع التركيز على تلك الضعيفة منها، في محاكاة لمن ماتوا في سورية في زمن أزمتها المرّة، نعم.. بروز عظام المنحوتات تُظهر القسوة ولكنها ليست بأقسى من صور الحرب ومآسيها».
مشيرة إلى أنها تستخدم الريزين بعد أن تقوم بتنظيف العظام جيدا، فهي المادة التي تحافظ على شكلها أطول وقت ممكن «لقد شكّلت بعضا من المنحوتات من أرجل أبقار حقيقية بعد أن قمت بتنظيفها وتكسيرها وإعادة قولبتها على شكل أقدام، كأقدام راقصي الباليه، ثم قمت بتلوينها، وتشاهدون فوق كل قدم منها أداة من أدوات الطعام من ملاعق وشوك وسكاكين -بينها سكين لوالدي-وغيرها من الأدوات. وجدت فيها مقاربة للوحشية الصادرة من البشر، في قتل الضحية دون أي رحمة، فنحن نقتل الحيوانات –لو أنها سُخّرت لنا- بكل وحشية كي نأكلها، وحاولت المقاربة من الوحشية التي قُتل فيها الكثيرين في الحرب وكان لا حول لهم ولا قوة تماما كالمنحوتات المصّورة». كما أضافت التشكيلية بأنها تستخدم الحديد والنحاس الذي تطويه بكل دقة وفقا للشكل المناسب لأفكارها المطلوبة.
عالم يعجّ بالتزوير
مقدمة دليل المعرض جاء بالحديث عن الكيفية التي تمكنت الفنانة عبر مراحلها المتعددة، أن تبحث عن لغتها في عالم يعجّ بالتزويز، هذا العالم شكلته من قساوة الحديد وصلابته عبر معاني الحلم، والنساء الفارعات، والرجال المهزومين. بحثت بين الحديد البارد لتصوغ حياتها من جديد. أما فيما نراه من أعمالها فنقرأ: «ما نراه في منحوتات صفاء الست في معرضها» وأما بعد.. الموت يسكن قريباً مني«ليس هياكل عظمية لحيوانات منقرضة، بل حياة لم تتشكل بعد، حلم مجهض وبقايا لم تكتمل، هذه العظام الناتئة توحي بأن الأمر لا يتعدى مجموعة كائنات مجهولة تشبه حيوانات نعرفها جيداً، قرأنا عنها، شاهدناها ذات يوم. لقد برعت صفاء الست في معارضها السابقة وتتابعها الآن، حيث تعيد خلط وهمنا في حقيقتنا التي نهرب منها دوما، تخبرنا دون مواربة أن الموت يسكن قربنا، لا تطلب منا أن نلتفت إليه، وتكمل في مخاطبتها بأننا كهذه البقايا التي نحتتها بصبر شديد، بدقة لا متناهية إلى درجة تشعر حين تشاهد أعمال المعرض بأن هذه الهياكل هي عظامنا التي نلمسها بحذر يوميا كي نتأكد بأنها لم تتحول إلى رماد بعد» وأما بعد، الموت يسكن قريباً مني «جولة قاسية في بقايا أسلافنا وفي حاضرنا الذي نعيشه منذ الأزل، في موتنا المقبل رغم ادعائنا الحياة».
مفهوم آخر للموت
من جانبه تحدث الناقد عمار حسن عن تجربة الفنانة صفاء الست قائلاً: «لننطلق من العنوان» وأما بعد.. الموت يسكن قريباً مني «فالموت هو غير ساكن وتقابله حياة إلى حدّ الموت. إذا ترّكز الفنانة على التداخل بين المفهومين: الحياة والموت، وعلى الخصوص الموت المباشر، وهو أحد أسباب الحرب الطبيعية، ولكنه موت لحظي سواء للوقت وللحلم وللإنسان. أنه الموت الساكن والموت الداخلي، وهذا تماماً حال الحرب عندما تسبّب الكثير من المواجهات وعند انقطاع الكثير من سبل الحياة فلابد أن يكون الموت حاضراً ولكن بشكل غير مباشر، وهذا ما تلحّ عليه (صفاء) كنتيجة لوجع الحرب، حيث طالت الإنسان بالدرجة الأولى والكائنات الحية بالدرجة الثانية، والمنحوتات جاءت شرارتها لحمامة ميتة شاهدَتها على قارعة الطريق. وما يمثل وجعها الحاد هو الحديد الحار. هذا وأحب أن أضيف هنا إن الكائنات بهياكلها العظمية، عند مشاهدتها عبر المنحوتات، لا نشعر بأنها استسلمت للموت، بل نشعر بأن قلوبها تنبض وما زالت تتوسل الحياة، وهذا ما يُشعرنا بالصدمة تجاه هذه الأعمال، حيث ندخل بمفهوم آخر للموت».
وختم حسن بأن المعرض إضافة جديدة للتجارب السابقة للفنانة التشكيلية، فهي تقدم عرضاً مختلفاً جداً وهو طبيعي لفنان عاصر الحرب بالمشاعر السلبية وبكل تأثيراتها والأمر بالنسبة لصفاء الست مألوفا لكونها متجددة بأفكارها ومشاعرها.
المشهد واقعي
وقد أوضح الناقد التشكيلي سعد القاسم أن تجربة الفنانة الست تعبّر تماماً عن المشهد الواقعي وبأنها انتقلت من التجريد إلى الواقعية المعبرة، عبر وجع حاد مرّت به ويمر به كل مواطن سوري عاش الحرب، حيث تتعقبه خيالات الموت وأشباحه في كل لحظات أيامه، مضيفاً «أنا مرحبّ جداً بقرار الفنانة صفاء الست بعرضها لأعمالها في دمشق، واليوم من الضرورة بمكان وعلى كل الفنانين العودة، والمبادرة لعرض أعمالهم في الصالات اللائقة، كي تبقى الحركة التشكيلية معافاة وفي نشاطها المطلوب».
سوسن صيداوي
الوطن