موسيقانا بين التلقائية والمعرفة الأكاديمية

ثمة مقولة قديمة تقول :أنه كلما كان العمل الموسيقي عفوياً وأكثر تلقائية، كان أكثر جمالية وأصدق تعبيراً عن الزمن الذي كتب فيه. هذا الرأي له مريدوه الكثر،وهو صحيح في أكثر حالاته وتجلياته. فأغلب الأعمال الموسيقية التي رسخها التاريخ وتجذرت في الذاكرة الجمعية العربية بدأت من هذه المقولة بماتحمل من صدق والتزام بالروح الشعبية التي أغنت موروثنا الموسيقي على مدار الأزمنة والعصور.

-وهذا ليس بجديد، فكل شعوب الأرض تمتلك هذا الذخر الابداعي الخاص والمتفرد، الذي اشتغل عليه وطوره اعلام كبار يمتلكون العلم والمعرفة كما يمتلكون الرؤى والرؤية المستقبلية في جعل هذا الإرث حياً معيشاً، عبر استلهامه وإعادة إحياء رموزه ورمزيته كأحد روافد الابداع في الثقافة الوطنية كما في الثقافة العالمية ككل. لكن لابد من السؤال هنا :أين موسيقانا العربية اليوم من هذه الرؤية المغيبة نتبجة استفحال تيارات التغريب والتقليد السائدة في المشهد المعاصر؟ إنه سؤال الأسئلة الذي لاجواب عليه إلا من خلال قراءة جوانية هادئة وعقلانية للظروف التاريخية والاجتماعية التي أدت الى انحراف هذا الفن عن مساره الابداعي المنشود، وهي ظروف فعلت فعلتها في تغيير عادات التلقي والتذوق الجمالي نتيجة دخول تقانات وأدوات وافدة بدأت تنتشر مع موجة التغريب الأولى آواخر القرن الماضي بماعرف وقتها ب”أغاني الفرانكو آراب” واستفحالها لتصل الى العولمة ومابعدها، ونشر الفوضى وتحطيم القواعد والأصول الراسخة التي انبنى عليها هذا الفن الانساني النبيل منذ أن كتب الموسيقي القديم أولى نوتة ابداعية في مسير هذا الفن نحو الجمال والابداع. هذه الموجات التغريبية هي بشكل أو بآخر سليلة حركات “الدادا” وتدمير الموسيقى التي قامت في الغرب كردة على كل ماهو موروث وراسخ حسب رأي منظروها وفلاسفتها المعاصرون، وفي حقيقة الأمر نبه العديد من الباحثين والحكماء الى خطورة هذا التوجه والانقياد الأعمى نحو تفريغ هذا الفن من مضامينه الروحية والوجدانية، بحجج واهية أثبت الزمن فشلها وعقمها الابداعي الكبير. وهذا يعني بسكل أو بآخر أن التقاليد الموسيقية الراسخة هي أيضا ابنة العلم والمعرفة وإلا لانقرضت وتاهت مع موجات التغريب والتقليد القردي المريض الذي يتسيد المشهد بكل تفاصيله، وهذا يعني وبشكل دائم ومستمر أن العلم والمعرفة ضروري لتحصين هذه التقاليد من متاهات التغريب عندما يتناولها مؤلف موسيقي يمتلك روح الالتزام والانتماء الى هويته الموسيقية الوطنية ، كماحدث مع جيل الرواد في موسيقانا العربية بدايات ومنتصف القرن الماضي، حين اجترحوا الصيغة المثلى في تناغم العلم والمعرفة مع الفطرة الموسيقية الشعبية بعوالمها التعبيرية المدهشة، ليكتبوا من وحيها موسيقى عربية ابنة زمنها الابداعي الأصيل بالرغم من روحها الحداثية المتقدمة وهي معادلة يفتقدها المشهد الموسيقي العربي المعاصر إلا ماندر من خلال بعض الومضات الابداعية هنا أو هناك. من دون أن تحدث توازناً مطلوباً مع نتاجات التغريب والتقليد السائدة. يقول المايسترو “عزيز الشوان” في كتابه القيم “الموسيقى تعبير نغمي ومنطق” :إن الجرأة في التجديد ضرورة ولكن تحطيم القواعد والأصول لايمكن أن يعطي فناً له بقاء. إنه بدعة سرعان ماتزول دون أن تترك أي أثر ويخطئ من يتصور أن النظام المقامي “tonal system” قد انتهى عصره بفعل التجديدات الكروماتيكية التي ابتكرها ريتشارد فاجنر وسيزار فرانك أو بفعل التأثيرية الفرنسية عند دي بوسي ورافيل، كما أن اللامقامية التي ابتدعها أرنولد شونبرج أو الأثني عشرية التي هندسها في اتجاهات متطرفة عرضت الجمال في الموسيقى للاختفاء او الزوال بل أستطيع أن أقول أنها دمرت الجمال والسلاسة والبساطة وقضت عليها تماماً بحجة التعبير عن أحاسيس جديدة تناسب عصر مابعد الحروب أو عصر القلق، ولتصوير تلك الأحاسيس يستعمل هؤلاء المجددون كتلاً صوتية شديدة التنافر أقرب الى الإزعاج منها إلى الاستمتاع بحجة اكتشاف أشكال جديدة أو الانصياع دون ترو لرغبة التجديد حتى لو كانت النتيجة الى أسوأ.

علي الأحمد ثورة أون لاين

شاهد أيضاً

ماهو لغز سرقة فيلا الفنانة “غادة عبد الرازق”؟

شام تايمز – متابعة تمكّنت الأجهزة الأمنية في مصر من كشف غموض وملابسات سرقة فيلا …