ماتبقى من إرث سيد درويش

بالرغم من كونه واحد من العلامات المضيئة في تاريخ موسيقانا المعاصر، وأحد المؤسسين الكبار لمشروع الحداثة فيها، فإن سيد درويش هذا الأسم الكبير والعظيم، بالكاد يسمع عنه أو يعرفه الجيل الحالي، في قصور معرفي وجحود مابعده جحود نحو الأعلام والقامات الموسيقية المبدعة.
-صحيح أن نهجه ومساره الابداعي الخالد، قد أكمله فيمابعد، مريديه وممن تتلمذ روحياً في مدرسته العظيمة، إلا أن هذا المسار مالبث أن توقف مع رحيل هؤلاء الفرسان، ودخول تيارات التغريب والتقليد الحياة الموسيقية العربية المعاصرة، وبقي إرث هذا المؤسس تتقاذفه بعض الأمسيات والفعاليات العابرة، في حين صعد تيار التغريب بشكل متوحش ليصل الى موكب العولمة ومابعدها، وما أدراك ما العولمة التي تريد أمركة العالم، بقوة المال والاعلام وغيرها، بما أثرّ ويؤثر في تراث الشعوب قاطبة وتقاليدها وعناصر الابداع في هويتها الوطنية. وقد لايعلم الجيل الحالي، عن إرث هذا المبدع، وماقدمه لموسيقانا العربية من خدمات جليلة، عبر عمر فني خاطف قلب المعايير السائدة في عصره رأساً على عقب، ووضع الموسيقى العربية في مكانها ومكانتها التي تستحق، فبات يؤرخ لها بمرحلة ماقبل سيد درويش ومرحلة مابعده، وهو ما أكده تلميذه النابغة الموسيقار محمد عبد الوهاب حين قال :إذا أردت أن تعرف ماقدمه سيد درويش للموسيقى العربية فانظر كيف كان الملحنون في عصره يلحنون. وفي هذا دلالة بالغة على المسار والمسير الابداعي الذي اختطه هذا الكبير، ابو الحداثة والحداثي الاول في موسيقانا العربية المعاصرة، ولم تكن هذه الحداثة عنده لمجرد الحداثة وكفى، بل تعدتها الى مرحلة مهمة في تاريخ هذا الفن، نحو التأسيس المثمر للمدرسة التعبيرية والتصوير الوجداني العاطفي، والأهم في كل ذلك أنه أنزل موسيقانا من برجها العاجي والأماكن العالية المغلقة الى لغة الشارع وروح الشعب فأصبحت تنطق بهذه الروح الأصيلة بلغة تلحينية جديدة فيها كل الحياة والعطاء والابداع، وألحانه الخالدة للصنايعية والفلاحين والعمال والمرأة والسقايين والموظفين وغيرهم تدل على أصالته وروحه الشعبية العظيمة، ومن هنا نرى التعبير الموسيقي في الحانه تأخذ منحى مغاير تماما عما ألفته الأذن العربية التي تسلطنت الى حدود التخدير في بلاط الموسيقى العثمانية بمالها وعليها، فجاء سيد درويش وأيقظها من سباتها العميق ليشدها نحو عالم مدهش من الأعمال المسرحية الغنائية هذا الفن الراقي الذي كان احد أعمدته الكبار بمباركة من صحبة فنية قلما ان تتكرر شعراً وتمثيلا وتوزيعا وغناء، هذا المسرح الذي شده الى عوالمه الساحرة تلك العروض المسرحية والأعمال الموسيقية السيمفونية التي كانت تقام في ايامه اضافة الى زياراته الى بلاد الشام وتعرفه عن كثب على اعلامها الكبار في التلحين والموشحات والقصائد وغيرها، اعطاه ومنحه القدرة على إبداع موسيقى عربية حداثية لكنها أصيلة بكل ماتحمل الكلمة من معنى ودلالات، وهو تفهم العلوم والأدوات الغربية وتقنيات الكتابة والتأليف الغربية، على انها عامل إثراء وتخصيب للتقاليد الموسيقية العربية وليس خروجاً عليها او نبذا والابتعاد عنها كماحدث لاحقاً. تشهد على ذلك أعماله الموسيقية العظيمة التي كتبها في زمنٍ قياسي من أدوار وموشحات وأغاني وطنية وعاطفية وغيرها ” ضيعت مستقبل حياتي، أنا عشقتك، صحت وجداً، هز الهلال ياسيد، ياشادي الالحان، طلعت يامحلا نورها، خفيف الروح بيتعاجب، والله تستاهل ياقلبي،بنت البلد، آهو اللي صار، زروني كل سنة، الحلوة ده، ياناس أنا مت في حبي، وقائمة طويلة من ابداع هذا الخالد الذي عشق موسيقاه العربية بكل روحه ووجدانه وهو الذي كان يوقع أعماله على الدوام “بخادم الموسيقى العربية” بماتحمله هذه الجملة من معانٍ تفصح عن اصالة وابداع هذه القامة السامقة التي لم يمهلها القدر لتكمل المسار والمسيرة، ليبقى إرثه العظيم باقياً مهما حاول المتغربون ان يعتموا عليه . إنه سيد درويش الذي قال فيه الكبير “نزار قباني” :
أمطار أوربا
تعزف سوناتات بيتهوفن
وأمطار الوطن
تعزف جراحات سيد درويش
وأنا بدون تردد
مع هذا الاسكندراني
الذي يضيء في حنجرته قمر الحزن
ومآذن سيدنا الحسين.

علي الأحمد

الثورة أون لاين

شاهد أيضاً

ماهو لغز سرقة فيلا الفنانة “غادة عبد الرازق”؟

شام تايمز – متابعة تمكّنت الأجهزة الأمنية في مصر من كشف غموض وملابسات سرقة فيلا …